أجمل ما يمكن أن يقدمه الروائي كتابة عمل يتمتع بالأصالة، وذلك من خلال فكرة رئيسة فريدة تتناسل منها أفكار غير عادية، فضلا عن اللغة المبتكرة والجودة العالية، وهذا ما نجده لدى كبار الروائيين، ممن يبدون، لشدّة أصالة ما يقدمونه، كأنهم يعيدون اختراع نوع روائي جديد، والنتيجة غالبا عمل أصيل يبتعد عن الكليشيهات الجاهزة وعما هو متكرر ومقلّد.
فالأصالة في الأدب عموما، هي المقدرة على تقديم كتابة تنطوي على نضارة وإبداع، وتفتح الآفاق على وجهات نظر جديدة، لتأتي ذات قيمة وسمة خاصتين بها، فلا شيء كالأصالة يساعد على التنوع الأدبي. والأصالة في أحد وجوهها تتمثّل في الأفكار المدهشة التي تخالف المألوف وتدفع المؤلف إلى التغلب على التقاليد الأولى أو المحدودة وتحدي توقعات الآخرين وأفكارهم، ومن هنا تعزز الأصالة تطور الفن الأدبي، وتعمل على إثراء المشهد الثقافي إجمالا، أمام ما نشهده في أيامنا من سهولة النشر، وكثرة دور النشر التجارية، والكتابات السطحية الذائعة، حتى بات كثير مما نقرأ يفتقر إلى الأصالة، وهو أول تهديد للأدب الجاد، ومن ضمنه الرواية.
لا بدّ هنا من الإشارة إلى الجوائز الأدبية ولجانها التي تكافئ العمل الروائي، فتختار الأعمال الأصيلة أولا، أي المبتكرة، إدراكا منها بأن مثل هذه الأعمال هي التي ترفع من شأن الجائزة. فالأصالة ليست مجرد صفة مرغوبة، بل هي شرط أساس للحفاظ على نزاهة المسابقات وشرعيتها، بجانب الجودة بالطبع، فهما جانبان يتكاملان في تقديم عمل استثنائي. فالعمل الأصيل إن افتقر إلى الجودة الأدبية، يمكن أن يفقد تأثيره، تماما مثل العمل المكتوب بلغة جيدة لكنه يفتقر إلى الأصالة، فهو قابل للتنبؤ بأنه عمل بلا جوهر.
لا خيار إلا أن تأتي الكتابة حرّة تماما، من دون رقابة ذاتية أو خوف من الاختلاف
وفي كنف هذا العالم الخيالي الساحر، الذي تُشترط فيه الأصالة ،لا خيار إلا أن تأتي الكتابة حرّة تماما، من دون رقابة ذاتية، أو خوف من الاختلاف، فيفسح الكاتب في المجال لأفكاره حتى تتدفق دون قيود، مما يساعده في اسكتشاف وجهات نظر جديدة وهو يتقدم في عمله، وإيجاد حبكته ورسم شخصياته وتطوير عمليته السردية. بالتالي، فإن الحاجةماسّة إلى تعزيز بيئة الحرية، ليشعر الكاتب بشعور المغامر وهو يكتشف الأماكن الإبداعية المجهولة، فالأصالة أيضا صوت المؤلف، وتفرد رؤيته الى العالم وعدم الاستسلام للضغوط والمعايير المرسومة والمحددة.
ولا ريب في أن هناك سبلا عدة تساهم في إنشاء رواية أصيلة وجذابة، ومن ضمنها البحث في شؤون الحياة وشجونها، مما يكسب الكاتب المزيد من المعرفة حول الفكرة التي يشتغل عليها، وهذا من شأنه إثراء الرواية، وفي الوقت نفسه ترسيخ الخلفية الإبداعية والثقافية للكاتب، ولا ننسى في خضم ذلك كله الإلهام الذي يتأتّى أحيانا من قراءة الأعمال الكلاسيكية والمعاصرة وتحليل بناها السردية، فهذا يعزز قيمة الاتجاهات التي يعمل عليها الروائي.
ومن أجل المزيد من الحفر في أصالة الرواية، من الممكن وضع استراتيجيا التفكير بشكل عكسي، أي أن يشك الكاتب في الأنماط والأعراف الراسخة، مما يساعده في توليد أفكار مبتكرة وإنشاء حبكات وشخصيات غير متوقعة، تجذب اهتمام القارئ الباحث عن موضوعات غير عادية، وشخصيات فريدة، وهياكل سردية مبتكرة.
على امتداد تاريخ الرواية، كان البقاء للأصالة التي تقتل الركود وتُحيي التحدي والإلهام
وأخيرا، فإن العملية الإبداعية ليست سهلة، ولا يمكن توافرها في كل حين، فهي لا تقوم على المصادفة، بل تحتاج موهبة تقوم على الفكرة الجديدة، مع أصالة اللغة والابتكار في البنية السردية، ولعل ظاهرة سلسلة "هاري بوتر" تشكّل حالة نموذجية مميزة، توضح أهمية الأصالة في أدب الناشئة، وكيف أن صبيا من أُمٍّ إنسية وأبٍ جنّي، يغادر عالم الإنس إلى مدارس الجن، ويمضي في رحلة مع العوالم المتخيلة... هذه الفكرة المبتكرة غيرت المشهد الأدبي الخاص بهذا الجنس من الكتابة، ومكنت صاحبتها ج.ك.رولينغ من تقديم ملحمة عصرية جديدة وسط سوق مشبع بالتقاليد.
وعلى امتداد تاريخ الرواية، كان البقاء للأصالة التي تقتل الركود، وتُحيي التحدي والإلهام، وتُشبع حاجة القارئ الباحث عن الدهشة والأصالة في آن واحد.