قصة تطور خط الجزم العربي باتت مكتملة على أرض السعوديةhttps://www.majalla.com/node/321974/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D9%82%D8%B5%D8%A9-%D8%AA%D8%B7%D9%88%D8%B1-%D8%AE%D8%B7-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B2%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A-%D8%A8%D8%A7%D8%AA%D8%AA-%D9%85%D9%83%D8%AA%D9%85%D9%84%D8%A9-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A3%D8%B1%D8%B6-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B9%D9%88%D8%AF%D9%8A%D8%A9
بات في إمكان الباحثين والمهتمين بتاريخ الكتابة العربية الاطلاع على الموقع الإلكتروني الجديد الذي يعنى بنشر النقوش النبطية، ونقوش المرحلة الانتقالية من النبطية إلى عربية الجزم، إلى نقوش الجزم العربية السابقة لظهور الإسلام، والتي عثر على الغالبية الساحقة منها على امتداد أراضي المملكة العربية السعودية ومواقعها الأثرية التي تشكل كشوفاتها مفاجآت علمية تجلي الغموض عن مراحل تطور الخط العربي الذي نستخدمه اليوم.
هذا الموقع الإلكتروني الذي تشرف عليه نخبة من الآثاريين وقارئي النقوش من أعرق الجامعات العالمية، في مقدمهم البروفسورة اللبنانية- الفرنسية ليلى نعمة، يقدم بأسلوب علمي مبسّط كل شيء حول النقوش المكتشفة، وقراءاتها، ومواقع اكتشافها والملاحظات العلمية حول الكثير من القضايا التي تطرحها.
حل اللغز
من يتصفح هذا الموقع يكتشف بكل سهولة كيف حسمت الكشوفات الأثرية في السعودية خلال العقدين الماضيين واحدة من أكثر القضايا الآثارية واللغوية غموضا حول نشأة خط الجزم العربي. فحتى نهايات القرن العشرين، كانت القناعات في الأوساط الأكاديمية والبحثية راسخة بأن نشأة هذا الخط الذي كتب فيه القرآن الكريم، كانت في بلاد الشام، والسبب أن جميع النقوش التي عثر عليها منذ القرن التاسع عشر بهذا الخط، مؤرخة خلال القرن السادس الميلادي، وكانت تتوزّع بين حلب شمال سوريا وجبل حوران في جنوبها. أما الآن، فباتت قصة تطور خط الجزم العربي مكتملة، منذ نشأته الأولى حتى مآلاته النهائية في صدر الإسلام.
البداية من تيماء
بدأت القصة في مدينة تيماء القديمة، شمال المملكة العربية السعودية، في القرن السادس قبل الميلاد، حين طور التيمائيون الكتابة المربعة عن الكتابة الفينيقية/ الآرامية بصيغتها المعروفة في نقوش العصر الحديدي. واشتهرت هذه الكتابة المربعة على نطاق واسع نظرا الى رشاقتها وجمال حروفها، حتى أن الامبراطورية الفارسية الإخمينية تبنتها، وكتبت بها بعض نقوشها الرسمية، فأصبحت تعرف باسم الآرامية الدولية أو الإمبراطورية.
حسمت الكشوفات الأثرية في السعودية واحدة من أكثر القضايا الآثارية واللغوية غموضا حول نشأة خط الجزم العربي
من الناحية العلمية والآثارية، فإن أقدم نقوش أثرية على الإطلاق في هذا النوع من الكتابة، هي تلك الموجودة في تيماء، ومنها اشتقت جميع الأبجديات التي تسمى آرامية، من نقوش مدينة مليحة في الإمارات العربية المتحدة التي تعود إلى القرن الثالث قبل الميلاد، إلى النبطية، إلى الرهاوية السريانية، بكتابة الحضر شمال العراق، إلى التدمرية وصولا إلى العبرية. فجميع هذه الكتابات مشتقة من الكتابة المربعة التي عثر على أقدم وجود لها في مدينة تيماء. وثمة إشارة مهمة تتعلق بأقدمية هذه الكتابة ونسبتها إلى تيماء، ففي نص فينيقي لرجل الدولة اللوفي (وسط الأناضول) ياريريس (النقش المرموز له: KARKAMIS A15b) في منتصف القرن الثامن قبل الميلاد، يقول إنه يجيد قراءة الخط التيماني إلى جانب الآشوري والصوري إلخ. وقد ذهب نفر من الباحثين إلى أن المقصود بالتيماني خط تيماء، وإن صح هذا الافتراض فإن أقدمية هذا الخط ترجع إلى القرن الثامن قبل الميلاد.
النقش الثلاثي
من أطرف النقوش وأكثرها قيمة على صعيد تطور الكتابة العربية، النقش الذي عثر عليه في تيماء خلال موسم عام 2011 وصُنّف تحت الرمز ((TA10277، وسبب طرافته أنه شاهدة مقبرية استخدمت ثلاث مرات في عصور مختلفة من دون أن يخرِّب الجديد كتابة القديم. فالكتابة الأقدم وهي التي تحتل السطر الأول النافر بالخط التيمائي المربع، تخص امرأة تدعى جازية بنت رجع ايل (نفش جزيه برت رجعل). والكتابة المتوسطة التي تحتل السطر الثاني مكتوبة بالخط النبطي المبكر، وهو مرحلة وسطى بين التيمائي والنبطي المتوسط، ويعود وفقا للمقارنات إلى القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد. وهو يشبه إلى حدّ كبير الخط النبطي الحوراني، يخص امرأة تدعى جزيلة بنت وائلة (هي نفش جزيله برت وايله). أما الكتابة الأخيرة فتحتل الأسطر الثالث والرابع والخامس بالخط النبطي الأوسط، وهو الذي ساد في القرنين الأول قبل الميلاد والأول بعد الميلاد، مؤرخة بعهد الحارث الرابع في العام 4 قبل الميلاد. والنص يخص امرأة تدعى فصايل بنت عبيدو ماتت في شهر سبتمبر/ أيلول من السنة الرابعة والعشرين لحارثة ملك النبط محبّ شعبه (نفش فصايل برت عبيدو بيرح أيلول شنت 20+ 1+ 1+1 +1 لحرثت رحم عمه). وهذا اللوح الثمين يوضح بما لا يدع مجالا للشك كيف تطورت الكتابة من القلم المربع إلى القلم النبطي المتصل في مكان واحد هو تيماء.
معضلة المرحلة الانتقالية
ومع أن عالم الآثار وقارئ النقوش الفرنسي وادينغتون توصل منذ ستينات القرن التاسع عشر إلى الصلة بين خط الجزم العربي والخط النبطي، ظلّ هناك من يشكك من الباحثين في ذلك الاستنتاج، مرجعين اشتقاق القلم العربي من القلم السرياني. ورغم الشبه الكبير بين القلمين، العربي والسرياني، إلا أن الصلة المباشرة لم تظهر، ولم يعثر الباحثون عن المرحلة الانتقالية من السريانية إلى خط الجزم. أما التشابه فيمكن إرجاعه بكل بساطة إلى الجذر المشترك الذي اشتق منه القلم الرهاوي السرياني والقلم النبطي، علما أن ثمة من يرى بأن القلم السرياني نفسه مشتق من النبطي، نظرا لأقدمية الخط النبطي.
عثر الباحثون على نقوش المرحلة الانتقالية من النبطية إلى العربية وهي تتوزع بين مدينتي العلا والحجر شمالا، وصولا إلى نجران جنوب المملكة
وحلت هذه المعضلة خلال السنوات العشر الأخيرة، على أرض المملكة العربية السعودية، فقد عثر الباحثون على نقوش المرحلة الانتقالية من النبطية إلى العربية، وهي تتوزع بين مدينتي العلا والحجر شمالا، وصولا إلى نجران جنوب المملكة، وخير من يمثل هذه المرحلة نقش المابيات، إذ ردم هذا النقش فجوة "المرحلة الانتقالية" وظهرت فيه تحولات الحروف العربية من النبطية إلى الجزم. وهو نقش مؤرخ في عام 280 ميلادي، ويخص امرأة تدعى رمنة بنت يوسف بن عرار من مدينة قريا، علما أن نقوش المرحلة الانتقالية كثيرة وهي تزداد يوما إثر يوم نتيجة توسع الاكتشافات.
العدد الأكبر في المملكة
ومع تقدم عمليات التنقيب باتت المملكة صاحبة أكبر عدد من نقوش خط الجزم العربية المؤرخة في الحقبة السابقة على ظهور الإسلام، ففيها أقدم نقش بهذا الخط يعود إلى القرن الرابع الميلادي (485 ميلادي)، عثر عليه في جبل الحقون قرب نجران ويعود الى كعب بن عمرو، علما أن نقش ثوبان من نجران أيضا، يعد من الناحية الزمنية أقدم نقش بحروف الجزم إذ يرجع إلى العام 470 ميلادي، غير أنه مكتوب بلغة نبطية. أما باقي النقوش فتتوزع بين مدينة الجوف (دومة الجندل) وتيماء والطريق التجاري بين مدينة الحجر (مدائن صالح) وتيماء.
إذن، قصة الخط العربي اكتملت الآن، وبتنا نعرف مراحل تطوره سنة وراء سنة، والأكثر لفتا للانتباه هو أن الأدلة على هذه المراحل عثر عليها في مواقع المملكة العربية السعودية التي تعدنا الكشوف الآثارية فيها بالمزيد من المفاحآت المعرفية.