يصر ساسة العراق على استنساخ تجارب دول غير مستقرة، وتكرار وصفات الفشل التي لم تنتج إلا خراب البلدان ونهب ثرواتها، وغياب الدولة ومؤسساتها في المجال السياسي. إذ بدلا من الاستفادة من تجربة اليابان وألمانيا في إعادة بناء الدولة بعد الحرب العالمية الثانية، توجه ساستنا نحو تجربة لبنان في الحكم، حتى أصبح الإعلام يصف العملية السياسية في العراق بعد 2003، بأنها تتجه نحو "لبننة العراق".
مشكلة نظام الحكم في لبنان، هي "شخصنة السياسة". إذ إن كل الأزمات السياسية حلولها وتعقيداتها تقع بين أيدي القيادات السياسية اللبنانية، ولا ننسى التدخلات الخارجية. حتى أصبح تعطيل الاستحقاقات الدستورية والمؤسسات السياسية، عرفا سياسيا يحكم لبنان. وكالعادة لم يتأثر كثيرا الساسة في العراق واستهوتهم تجربة لبنان في التعطيل وهشاشة الدولة ومؤسساتها، إرضاءً لمزاجيات القيادات السياسية وتحقيقا لمصالحهم.
وها نحن في العراق، مرت ثمانية أشهر ولم يَنتخب البرلمان رئيسا له بديلا عن السيد محمد الحلبوسي، الذي تم عزله من المنصب بقرار قضائي. وثمانية أشهر حتى اتفقت بعض قيادات الكتل السياسية على انتخاب محافظ ورئيس مجلس محافظة في ديالى وكركوك.
تتقصد النخب السياسية الحاكمة في العراق حرف الانتخابات عن وظيفتها الرئيسة، كونها تعبر عن خيارات الشعب في اختيار من يمثله في ممارسة الحكم. ومن ثم، تنظيم مدخلات شرعية الطبقة الحاكمة. لكن من يتحكم في القرار السياسي وإدارة الملفات ليس من ينتخب الشعب، وإنما زعماء أحزابهم وكياناتهم السياسية. ولذلك بات حسم موضوع تشكيل الحكومة وإدارة المناصب العليا في مؤسسات الدولة خاضعا لمبدأ التقاسم بين القيادات السياسية، التي تجتمع خارج البرلمان وتعقد صفقات التقاسم وتحسم المواضيع الإشكالية.
وإذا كان مفهوم الديمقراطية يعني أن تحكم الأغلبية البرلمانية باعتبارها حاملة تفويض الشعب والذي يعني ببساطة أن يحكم الذي يربح الانتخابات وأن تقوم الأقلية المعارضة بمهام ووظيفة المراقبة والمحاسبة، فإن الأمر ليس كذلك في تطبيق ديمقراطيتنا، إذ يتم الالتفاف عليه وإفراغه من مضمونه في التجربة العراقية، فيحكم بدلا من ذلك الكل، الرابح والخاسر، ويشكلون الحكومات، مرةً بعنوان حكومة "الوحدة الوطنية"، وأخرى عنوانها حكومة "الشراكة الوطنية"، وأخيرا "حكومة مستقلين"، والآن "حكومة ائتلاف إدارة الدولة". ومن يتحكم في كل هذه الحكومات مجموعة من قيادات الأحزاب والكتل السياسية لم ينتخبها الشعب ولم يخترها أن تكون ممثله له في تشكيل الحكومات.
وإذا كانت مساوئ الديكتاتورية تكمن في أن الدولة ومؤسساتها ومواردها الاقتصادية، تكون إدارتها خاضعة لمزاج القائد أو الزعيم. فإن "ديمقراطية الأوليغارشيات" أكثر خطورة من ديكتاتورية "القائد الأوحد"، لأن هذا النموذج من "الديمقراطية" يعمل على توزيع السلطة والنفوذ السياسي على مراكز متعددة من القوى. في حين تتمركز السلطة والنفوذ في النظام الديكتاتوري بيد "الزعيم السياسي". وعليه، فإن محاولة تغيير نظام الحكم الديكتاتوري تكون أسهل بكثير من تغيير نظام "ديمقراطية الأوليغارشيات". إذ إن سقوط رأس هرم السلطة الديكتاتوري يؤدي لانهيار كامل في بنية النظام السياسي، ولكن في نظام سياسي تتمركز السلطة فيه بيد عدد من الزعامات السياسية فإن انهيار بنيته السياسية تتعقد كثيرا.