مضى 11 شهرا تقريبا على حرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل ضد فلسطينيي غزة، والتي نجم عنها تدمير مدن القطاع، وتقويض بناه التحتية، بحيث ذهب حوالي ربع مليون فلسطيني ضحية لتلك الحرب، بين قتيل وجريح ومفقود تحت الركام ومعتقل (ضمنهم عشرة آلاف من الضفة).
أيضا، تعمدت إسرائيل في حربها تلك تغيير وضع غزة جغرافياً وديموغرافياً وعمرانياً، بوضع مليوني فلسطيني في معازل ضيقة، تحت النيران، في حقول رماية، لأسلحتها الفتاكة، مع حرمانهم من الماء والكهرباء والغذاء والدواء وأماكن الإيواء.
في المقابل تفيد إحصائيات بمقتل حوالي ألف من العسكريين الإسرائيليين وجرح نحو عشرة آلاف منهم، منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023. إضافة إلى خسائر إسرائيل الاقتصادية والسياسية، مع انكشاف وضعها في الرأي العام العالمي كدولة احتلال، متوحشة وعنصرية تمارس حرب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين.
مع هذه الأثمان الباهظة، يمكن ملاحظة أن لا نهاية لتلك الحرب المهولة، في المدى المنظور، لا سياسيا ولا تفاوضيا ولا حتى عسكريا، وأن حكومة نتنياهو مصرة على الاستمرار، والتلاعب بالمفاوضات، لأنها ترى فيها، في الظرف الراهن، فرصتها السانحة لشطب الشعب الفلسطيني سياسيا، وتاليا إخضاعه والهيمنة عليه، من النهر إلى البحر، والتخفف ما أمكن من الثقل الديموغرافي لغزة، وربما توسيع الحرب أيضا بتوجيه ضربة قاصمة لـ"حزب الله" في لبنان، وحتى للبرنامج النووي في إيران، بدعوى التخلص من الأخطار التي تهددها.
لنلاحظ، أيضا، أن إسرائيل التي أخذت على حين غرة، بضربة موجعة، وقاسية، ليوم واحد (7/10)، أخذت زمام المبادرة في حربها الوحشية في الـ323 يوما التالية، في كل ثانية ودقيقة وساعة، بحيث إن "الفوز" الذي حققته "حماس"، والذي كان أكبر من قدرة إسرائيل على تحمله، أو تمريره، حولته إلى نكبة على الشعب الفلسطيني، سيما في قطاع غزة.
في السياق ذاته، فإن "حماس" التي اعتبرت "الطوفان" مقاومة مستمرة للتخلص من إسرائيل، أو أقله من الاحتلال، ودعت الناس في العالمين العربي والإسلامي، وفلسطينيي الضفة والقدس و48، للانقضاض على إسرائيل (حسب خطاب محمد الضيف- 7/10/2023)، والتي لم تجد صدى، باتت هي التي تطلب الهدنة، ووقف الحرب، بل وتتهم حكومة نتنياهو بالتملص من مقترحات بايدن، رغم حديثها عن غرق الجيش الإسرائيلي في رمال غزة!
اللافت أن "حماس" لا تمتلك، عمليا، في خضم هذا الواقع الكارثي سوى ورقة الأسرى الإسرائيليين، وحتى هذه لم تعد تشتغل كقوة ضغط كافية على حكومة نتنياهو، إذ وظفتها لاستمرار حربها وتبريرها
إضافة إلى ذلك، فإن إسرائيل تستدرج الحرب على جبهات أخرى أيضا، كأنها تترجم "وحدة الساحات"، الذي أسست "حماس" عليه فكرتها عن هجوم "الطوفان"، وهي مفارقة تستحق الانتباه، مع هجمات إسرائيل في لبنان وسوريا والعراق واليمن وحتى في إيران ذاتها.
واضح أن "حماس"، أخطأت في تقدير قوتها، وفي مراهنتها على مدد "الملائكة"، و"وحدة الساحات"، وندائها للعالمين العربي والإسلامي، وبهجمتها كجيش مقابل جيش، وفي عدم تقديرها للدعم الذي تحظى به إسرائيل من الولايات المتحدة، والغرب عموما، إلى درجة دعمها في حرب إقليمية. أيضا، هي أخطأت بعدم تقديرها قوة إسرائيل ومجتمعها، الذي وضعته إزاء حرب وجودية، إذ تبين أنها مستعدة لخوض حرب طويلة، وتحمل خسائر بشرية واقتصادية كبيرة، وحتى خوض حرب إقليمية، إذ إن التصدع الداخلي فيها لا صلة له تماما بالصراع ضد الفلسطينيين؛ بخلاف ما يصور البعض ممن راهن على أزمات إسرائيل الداخلية.
الآن، فإن هذا الوضع يبين مدى الاستعصاء الفلسطيني، سيما الناجم عن قصور إدراك قيادة "حماس" لخطورة خياراتها، والتي يدفع الشعب ثمنها، من تضحياته ومعاناته، فتلك الحركة غير قادرة على مواصلة القتال بالقدر الذي تملكه إسرائيل، مع الاحترام للتضحيات والبطولات. وحتى لو استمرت، فهذا للأسف لا يغير من معادلات تدمير غزة، ومن الجنون تحميلها، أو تحملها، هذه المهمة بعد كل ما حصل للبشر والحجر والشجر في غزة. أيضا، فإن "حماس" ترفض أن تعترف بالواقع، لأنها ترى في ذلك استسلاما ونهاية لطريقها.
المعنى، أن البقاء في تلك المعادلة بدعوى شروط "حماس" لم يعد مجديا، لأن استمرار الحرب هو ما تسعى إليه حكومة نتنياهو، والشعب الفلسطيني هو الذي يسحق في الأثناء، دون أن تستطيع "حماس" حمايته أو تقديم نقطة ماء أو لقمة غذاء له.
لنلاحظ أن كل شروط "حماس" لم يعد لها أرضية، وهي ليست العناوين التي شنت "الطوفان" على أساسها. مثلا، المطروح اليوم انسحاب إسرائيل من القطاع، بخاصة من محوري "نتساريم" و"فيلادلفي"، وليس من الضفة، وغابت مسألتا وقف الانتهاكات للأقصى، التي زادت، وتبييض السجون، لصالح صفقة محدودة. المطروح أيضا وقف نهائي للحرب، وليس استمرار المقاومة، مع طرح البعض هدنة لسنوات، ويأتي ضمن ذلك فتح المعابر للمساعدات الإنسانية، ووضع خطة للإعمار، علما أن كل ذلك كان قائما قبل السابع من أكتوبر، فقط المتغير الوحيد هو أن حرب إسرائيل حولت القطاع إلى منطقة غير صالحة للعيش، وأن غزة ما قبل السابع من أكتوبر لم تعد موجودة، هذا غير الأثمان البشرية والعمرانية المهولة.
اللافت أن "حماس" لا تمتلك، عمليا، في خضم هذا الواقع الكارثي سوى ورقة الأسرى الإسرائيليين، وحتى هذه لم تعد تشتغل كقوة ضغط كافية على حكومة نتنياهو، إذ وظفتها لاستمرار حربها وتبريرها، فضلا عن أنه في المقابل ثمة مليونا فلسطيني في أسر إسرائيل.
الأولوية في ظل هذه الظروف والمعطيات لتعزيز صمود الفلسطينيين في أرضهم وترسيخ وتطوير مؤسساتهم قبل المقاومة وأثناءها وبعدها
ملاحظة أخيرة، مشكلة "حماس" أنها في خطاباتها، وإعدادها لـ"الطوفان"، لم تخطط لاستراتيجية تراجع، وفقا لإدراكاتها عن وضعها، وعن إسرائيل، والعالم. علما أن التجربة التاريخية تفيد بأن المعطيات الدولية لا تسمح للفلسطينيين بتحقيق إنجاز سياسي، مهما كانت بطولاتهم وتضحياتهم. هذا حصل بعد الانتفاضة الشعبية (1987-1993)، والانتفاضة الثانية (2000-2004)، وفي حروب غزة (2008-2012-2014-2021)، وحتى في الحرب العربية-الإسرائيلية الرابعة (1973، مع مصر وسوريا)، ليس فقط بسبب التفوق العسكري لإسرائيل، وإنما لأنها بمثابة وضع دولي في الشرق الأوسط، تتمتع بضمانة الدول الغربية الكبرى (سيما الولايات المتحدة) لأمنها وتطورها وتفوقها من كل النواحي، بخلاف الصراع مع أية دولة استعمارية، أو استعمارية-استيطانية، كتجربتي الجزائر أو جنوب أفريقيا.
هذا ما يفترض إدراكه، والتعامل على أساسه، من قبل القيادات الفلسطينية، باعتبار أن الأولوية في ظل هذه الظروف والمعطيات لتعزيز صمود الفلسطينيين في أرضهم وترسيخ وتطوير مؤسساتهم قبل المقاومة وأثناءها وبعدها، قبل "فتح" و"حماس" وبعدهما، إذ إن هزيمة إسرائيل تتطلب تغيرا إيجابيا لمصلحة الفلسطينيين في المعطيات الدولية والعربية.