كنت قد كتبت سابقا حول هذا الموضوع المتعلق بقتل الأطفال في غزة. وما تواصله إسرائيل في إصرارها على هذا القتل، يعني أنها تواصل قتل المستقبل.
ولا تتحقق الكينونة بضمان المستقبل أو العمل في اتجاه ضمانه ولو إلى مدى منظور. المستقبل هو مسؤوليتنا لأنه مصيرنا، وقبل هذا هو مصير أبنائنا، بل هو حقهم علينا، وحق تاريخنا.
هل يهمنا المستقبل؟ وما معنى المستقبل؟ وأقصد هنا مستقبل الإنسان، هذه الكلمة المطلَقَة الغامضة الساحرة المخيفة . لأنه ما من فريق يمكن أن يرقى إلى تحقيق هذا الحلم بمفرده. وهنا المشكلة: لا بد من أن يصبح السلام العادل، وأشدد على كلمة العادل، حلمَ الغالبية في تَنوعها، وأن يحولَ ما يبذَل للحرب لصالح التقدم والتفاهم الإنسانيين.
منذ حداثتي أسأل: من اخترع الحرب؟ وكيف على امتداد التاريخ البشري تبنى الناس هذا الأسلوب؟ وضحوا بأغلى ما في الحياة للقيام بالحرب: ضحوا بالأبناء فضلا عن التراث الحضاري، وخطر خسارة أرض وطنية.
حين نمعن التأمل أو نتساءل: ما مكاسب الحرب وما خسائرها؟ من يفهم مضمون الجواب؟
متى يكتشف الإنسان إمكانات النعمة الفريدة العجائبية التي يتميز بها: ألا وهي العقل؟
الحقيقة أنه على امتداد التاريخ دَأبَ أهل القول، بل بعض أهل "الرأي" على اعتبار الحرب، ولا سيما الانتصار في الحرب (أي قتل العدد الأعظم من "الخصوم" وخسارة عدد عظيم من أبناء الوطن) على اعتبارها المجدَ والشرفَ الأعلى. فيا له من تقويم!
لم أفهم منطق الحرب أبدا، إلا إذا كانت حرب تحرر ورد عدوان
امتدت الحرب العالمية الثانية ست سنوات. وتجاوز عدد القتلى من الطرفين الملايين. وها هي البلدان التي خاضت الحرب في جبهة واحدة تنتظم اليوم في جبهتين متصارعتين بينما الفريق الذي خاضها عدوا (ألمانيا) أصبح صديقا.
ولنتساءل: كم من القيم الإنسانية والوطنية انتهكَت في الحروب؟ كم من الأبرياء قضوا فيها، ولا سيما الأطفال؟ كم من العاملين في حقول الإنتاج؟ كم من العلماء والمصلحين؟ ولن أسأل كم من المشروعات الإنسانية ومن الخيرات المادية ومن الصروح التاريخية والعمرانية دمرت؟
لم أفهم منطق الحرب أبدا، إلا إذا كانت حرب تحرر ورد عدوان. هل ينبغي أن تموت أعداد هائلة من المتحاربين (من الطرفين) وتدَمر البلدان قبل أن يقتنع الخصمان أو الخصوم بالتفاوض والبحث عن الحلول السلمية؟ وما هي الأسباب الجوهرية الممتَنعة على الحل؟ وكيف، بسحر ساحر، يصبح المستحيل ممكنا في نهاية الحرب؟
وإذا انتبهنا إلى ما تفعله إسرائيل في غزة نرى بأعيننا الحروب في أبشع أشكالها وأكثرها ظلما وعدوانية وتوحشا:
التعصب بأنواعه: الاغتصاب والإبادة، الانغلاق، هوَس الهيمنة والتوسع والبحث عن ميادين لإظهار التفوق، الأطماع، كراهية المختلف. أو الانتقام لهزيمة سابقة، ولا ننسَ جنون العظَمة والتراث القيمي الذي يربط المجد بالانتصار في الحروب، يربط المجدَ بالقتل.
فما هذا الإرث الذي يخلفه الصراع بديلا عن التفاهم والتعاون والإبداع؟ وما هذا العقل البشري، الأعلى بين عقول الكائنات، الذي لا يستنبط حكمة الحلول العقلانية السلمية وتبادل المصالح بدل تبادل القتل والإقصاء والنَفي والدمار؟ وكيف ينسى أن الحرب تلد الحرب وربما الحروب؟ وأن أكثر المتضررين هم الأطفال، أي المستقبل.
لكن العجيب أن "مغاوير الحروب وعشاقَها"، ينسون العديدَ من نداءات العقل وتهديد المخاطر، وتجتمع الحوافز والأطماع والأحلام والحزازات ويتدفق نهر الموت.