كيف أصبح داي الجزائر أحد الآباء المؤسسين للدستور الأميركي؟https://www.majalla.com/node/321954/%D9%88%D8%AB%D8%A7%D8%A6%D9%82-%D9%88%D9%85%D8%B0%D9%83%D8%B1%D8%A7%D8%AA/%D9%83%D9%8A%D9%81-%D8%A3%D8%B5%D8%A8%D8%AD-%D8%AF%D8%A7%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B2%D8%A7%D8%A6%D8%B1-%D8%A3%D8%AD%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%A2%D8%A8%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A4%D8%B3%D8%B3%D9%8A%D9%86-%D9%84%D9%84%D8%AF%D8%B3%D8%AA%D9%88%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D9%8A%D8%B1%D9%83%D9%8A%D8%9F
في استخلاص غريبٍ وساخرٍ في آن معا، يقول المؤرخ الأميركي توماس بيلي (1902-1983) في كتابه "التاريخ الدبلوماسي للشعب الأميركي" (A Diplomatic History of the American People): "إن داي الجزائر، وبشكل غير مباشر، كان واحدا من الآباء المؤسسين للدستور الأميركي". وما يبدو مستهجنا في هذا الاستخلاص، إنما هو تلخيص حاذق للدور الذي لعبه قراصنة شمال أفريقيا، خلال الربع الأخير من القرن الثامن عشر، في وعي الأميركيين لهويتهم وصياغة دستورهم، أقدم الدساتير المعمول بها حتى اليوم.
من الاستقلال إلى الإذلال
بدأت القصة في الرابع من يوليو/تموز عام 1776 حين أعلنت المستعمرات الأميركية الثلاث عشرة استقلالها عن التاج البريطاني، فغدت سفنها التجارية الناشطة في موانئ البحر المتوسط، بين ليلة وضحاها، مكشوفة أمام قراصنة الإيالات العثمانية شبه المستقلة، في الجزائر وتونس وطرابلس الغرب، والذين اعتادوا على قبض الإتاوات من السفن المحملة بالأخشاب والسكر والتبغ وخمور بوسطن الشهيرة، مقابل عدم التعرض لها.
لم تفلح جهود الأميركيين في إقناع حلفائهم الفرنسيين بوضع سفنهم تحت حماية الأسطول الحربي الفرنسي، فالمصالح الاقتصادية الأميركية الفرنسية افترقت هنا، الأمر الذي سمح للقراصنة بتركيز هجماتهم على السفن القادمة من العالم الجديد بشكل أكبر وأكثر جرأة. ولم يأت يوم توقيع معاهدة باريس التي اعترفت فيها بريطانيا باستقلال الولايات المتحدة عنها في الثالث من سبتمبر/أيلول عام 1783، حتى كان الأسطول التجاري الأميركي في خبر كان، والكثير من ربابنته ونوتيته معروضين في أسواق النخاسة.
كان الأمر مؤلما ومهينا لآباء الاستقلال الأميركيين، وتشكلت لديهم قناعة بأن قراصنة المتوسط المسلمين، يؤدون دورا رسمه لهم البريطانيون، بغية إذلالهم وتمريغ أنوفهم بالتراب، ووضعهم أمام حقيقة عجزهم عن فعل أي شيء من دون حماية ورعاية الأم الرؤوم بريطانيا.
انخرط جون آدمز في مفاوضات مع باشا طرابلس الغرب لانتزاع اتفاق يحمي السفن الأميركية من هجمات القراصنة، وتبين له أن هذا الاتفاق سيكلف الخزينة الأميركية نحو مليون دولار
في هذه اللحظة المصيرية برزت أمام المشرعين الأميركيين مجموعة من التحديات الكبرى، فتجارة الأخشاب التي كانت تشكل عصب اقتصاد الولايات المتحدة آنذاك، باتت نهايتها وشيكة، ولا يخفى تأثير ذلك على مستقبل الحلم الأميركي برمته. غير أن التحدي الأبرز كان اتفاقية الاتحاد الكونفدرالي التي صيغت بطريقة لم تكن تتيح تشكيل جيش أميركي موحد، أو أسطول حربي، أو فرض ضرائب على مستوى الولايات، أو حتى اتخاذ قرار سياسي موحد.
والحق أن التحديات الجديدة كانت تتناقض بشكل حاد مع نزوع الأميركيين نحو أعلى مراحل الاستقلال، والانزواء بعيدا عن العالم القديم بحروبه وصراعاته وتناقضاته وتجاربه المريرة، فتشكيل جيش موحد أو أسطول حربي من شأنه أن يدخل الولايات المتحدة في حروب خارجية لم تكن في وارد أحد من الآباء المؤسسين، هذا إذا لم يتحول الجيش والأسطول في منعطفات معينة إلى الداخل للإجهاز على حرية الولايات بدعاوى إعلان الحرب وحالات الطوارئ.
مأزق وجودي
أمام هذا المأزق الوجودي، حدثت واقعة قلبت الأمور رأسا على عقب، ومهدت بشكل أو بآخر لانخراط أميركي في أزمات العالم القديم، وهذه الحادثة هي سطو قراصنة مراكشيين على السفينة الأميركية "بيتسي" في أكتوبر/تشرين الأول 1784، قرب جزيرة تينيريف وسط جزر الكناري، واستيلاؤهم على ثلاثمائة طن من البضائع النفيسة، إضافة إلى طاقم السفينة الذين عرضوا عبيدا في أسواق النخاسة المراكشية. ولم يمض وقت حتى استولى قراصنة جزائريون آخرون على سفينتين أميركيتين هما ماريا ودوفين، وأسروا طاقمهما المكون من واحد وعشرين بحارا، ونظموا لهم موكبا مخزيا في مدينة الجزائر، تلقوا فيه البصاق والشتائم والسخرية المريرة. ومع فشل المفاوضات وتعنت القراصنة برزت إلى العلن وجهتا نظر للتعامل مع هذا الواقع الذي شكل أكبر إهانة للذات الأميركية: هل يلجأون إلى المواجهة العسكرية الحازمة؟ أم يرضخوا لابتزاز القراصنة ويدفعوا ما هو مطلوب من الإتاوات الباهظة؟ وجهة النظر الأولى تبناها توماس جيفرسون (1743- 1826) سفير الولايات المتحدة في باريس آنذاك، والثانية جون آدامز (1735-1826) سفير الولايات المتحدة في لندن.
بين جيفرسون وآدمز
كان جيفرسون، المتمعن في تاريخ الشرق، يرى أن الطريقة المثلى لمواجهة القراصنة هي تشكيل جيش وبناء أسطول حربي، فهذا الموقف وحده سيحمي الاقتصاد الأميركي، ومن شأنه أن يردع كل من تسوِّل له نفسه خوض حرب مع الولايات المتحدة، وسيُكِسب أميركا احترام العالم، ومن أجل ذلك تقدم بمشروع إلى الكونغرس يلحظ تخصيص مليوني دولار لبناء أسطول مزود بمئة وخمسين مدفعا. غير أن الكونغرس رفض المشروع، وخصص بدلا من ذلك مبلغ سبعين ألف دولار كرشوة لأصحاب النفوذ في الجزائر، وكلف بمهمة التفاوض مع الجزائريين سيناتور ورجل أعمال يدعى جون لامب (1735-1800)، فشل في نهاية الأمر، فخسر النقود، ولم يحقق أي تقدم.
وفي موازاة ذلك انخرط جون آدمز في مفاوضات مع باشا طرابلس الغرب لانتزاع اتفاق يحمي السفن الأميركية من هجمات القراصنة، وتبين له من خلال تلك المفاوضات الغريبة أن الاتفاق مع باشاوات طرابلس وتونس والجزائر سيكلف الخزينة الأميركية نحو مليون دولار. وبعد مفاوضات صعبة للغاية أظهر ممثل باشا طرابلس فيها احتقارا كبيرا لأميركا وللأميركيين، تبنى آدمز وجهة نظر جيفرسون القائلة بأن السلام مع هؤلاء "البرابرة" لن يتحقق إلا بالحرب، ولكنه كان على قناعة بأن مثل هذا العمل مستحيل في الوقت الراهن، نظرا للأعباء الاقتصادية الكبيرة المترتبة عليه، فضلا عن عدم استعداد أميركا للقتال.
وكان التفاوض هو الطريق الوحيد أمام أعضاء الكونغرس لحل هذه المعضلة التي أذلت أميركا، فأصدر أوامره للسفيرين آدمز وجيفرسون، وانضم إليهما بنيامين فرانكلين (1706–1790) للتفاوض مع سلطان مراكش، حيث نجحت المفاوضات في عقد اتفاق سلام مع السلطنة المغاربية، وإطلاق سراح السفينة "بيتسي" وطاقمها، مقابل هدية قيمتها 20 ألف دولار.
نحو مزيد من المركزية
هذه المفاوضات عمقت قناعات جيفرسون بضرورة وجود مؤسسات اتحادية مركزية، كالخزينة العامة، والجيش الوطني، والقوة البحرية العامة، ولذلك سارع إلى التوصية بوقف أي مفاوضات مع أي كيان في شمال أفريقيا إلى حين تصحيح الأوضاع. وبالفعل صدقت رؤيته للواقع، إذ لم تنجح الاتفاقية مع مراكش في وقف الهجمات على السفن الأميركية، بل شجعت باشاوات تونس والجزائر وطرابلس على المضي قدما في تكثيف هجماتهم بغية انتزاع التنازلات من الأميركيين. وسرعان ما بدأت تنتشر أخبار البحارة المأسورين في سجون البرابرة، وما يقاسونه من عذاب وتجويع وإذلال. وعلى الرغم من أن بعض تلك الأخبار كانت محض شائعات لا أساس لها من الصحة، فإنها ساهمت في تهيئة الرأي العام الأميركي للإقدام على الخطوة التي كان يخشاها ويتحاشاها كثير من سياسيي الولايات المتحدة آنذاك، وهي صياغة ميثاق وطني جديد يجنح نحو المركزية على حساب الكونفدرالية المطلقة المعمول بها منذ إعلان الاستقلال.
بعد نقاشات معمّقة حول إصدار وثيقة حقوق مستقلة تضمن الحماية لمختلف الحريات المدنية، وافقت إحدى عشرة ولاية على الدستور في سبتمبر عام 1788، وأقر رسميا في الرابع من مارس/آذار 1789
وأخيرا، نجح دعاة التغيير في جمع مندوبي 12 ولاية أميركية من أصل 13 ولاية، وعقدوا في فيلادلفي مؤتمرا دستوريا في شهر مايو/أيار 1787 برئاسة جورج واشنطن (1732-1799)، بهدف حل معضلة الدفاع عن السفن والتجارة البحرية الأميركية. وكان لافتا أن يشدد واشنطن على المجتمعين بأن يركزوا في كلماتهم على مزايا الاتحاد وجعله أكثر قوة، ولا يضمنوها أي إشارة إلى قراصنة شمالي أفريقيا، حفاظا على كرامة الولايات المتحدة. ومع ذلك، وبالإضافة إلى القضايا المتعلقة بالفيدرالية والكونفدرالية، وما يتفرع عنها من قضايا تخص الهوية السياسية والحقوقية والاقتصادية للولايات المتحدة، كانت مشكلة السفن والبحارة الأميركيين حاضرة في معظم الكلمات التي وصل بعضها إلى تخيل وصول قراصنة الجزائر إلى السواحل الأميركية.
دستور جديد
ومع ذلك كان الكونفدراليون يطلون على المجتمعين بمخاوفهم من تمركز السلطة، ويخاطبونهم بالنقاط التي تثير خشيتهم، وطالت النقاشات حول هذا الأمر حوالي أربعة شهور، وانتقلت إلى الصحافة والأدب، إلى أن تقدم المشرعون بمسودة دستور إلى الكونغرس في سبتمبر/أيلول 1787، وفي الشهر ذاته أحيلت تلك المسودة إلى الولايات للمصادقة عليها، وبعد نقاشات معمّقة حول إصدار وثيقة حقوق مستقلة تضمن الحماية لمختلف الحريات المدنية، وافقت إحدى عشرة ولاية على الدستور في سبتمبر عام 1788، وأقر رسميا في الرابع من مارس/آذار 1789، وكان يتضمن بنودا تسمح للكونغرس بإعلان الحرب، وتشكيل جيش وطني وأسطول بحري اتحادي وحمايته.
لم تتح هذه التشريعات للولايات المتحدة أن تبني مباشرة قوة حربية، فقد احتاج الأمر إلى مزيد من النقاشات والجهود التي بذلها جيفرسون بعد تسلمه منصب وزير الخارجية في الحكومية الاتحادية الجديدة، ثم رئاسة الولايات المتحدة معتمدا على اصطفاف الجماهير الأميركية خلفه لإعلان الحرب على البرابرة، فنجح مع تسلمه منصب الرئيس في بناء أسطول حربي سرعان ما دخل في حرب مع طرابلس الغرب استمرت نحو أربع سنوات (من عام 1801-1805)، الأمر الذي منح سفن الولايات المتحدة التجارية الأمان، وقلل إلى حد بعيد من حوادث القرصنة التي كانت تستهدفها.