شهدت ليبيا ما بعد حكم العقيد معمر القذافي دورات من الحرب تخللتها فترات من الاستقرار الهش. فالحرب التي شنها قائد الجيش خليفة حفتر على الغرب الليبي في الفترة 2014-2015 انتهت بالاتفاق السياسي الليبي. وعندما انهار هذا الاتفاق، هاجم حفتر طرابلس مرة أخرى في 2019-2020، ولم يوقفه إلا التدخل التركي. بعد ذلك سعى منتدى الحوار السياسي الليبي إلى إجراء انتخابات عامة في ديسمبر/كانون الأول 2021. ولأن التصويت تأخر، يدير البلاد تكتل من النخب التي ليس لديها أي حافز للتخلي عن السلطة. والصراع الحالي حول مصير محافظ البنك المركزي الصادق الكبير هو أحدث مثال يوضح كيف تركز هذه الطبقة الحاكمة غير الشرعية على المال والموارد على حساب مصلحة الشعب.
في جوهر الأمر، ثمة هيئة تشريعية منتهية الصلاحية (مجلس النواب)، انتخبت عام 2004، تقاتل كي تسيطر على البلاد ضد حكومة الوحدة الوطنية المتمركزة في الغرب، التي شكلت عام 2021 لتحكم عاما واحدا.
لا تتمتع أي من الهيئتين بالشرعية. إذ انتخب عقيلة صالح، رئيس مجلس النواب منذ أكثر من 10 سنوات، بأقل من 1000 صوت في مدينة القبة. أما رئيس وزراء حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة فانتخبه 39 عضوا من أصل 73 من أعضاء ملتقى الحوار الوطني الليبي (في ظروف مشكوك فيها) وقد مضى على انتهاء ولايته أكثر من عامين. وبالتالي، فإن 1000 شخص تقريبا من بين سكان البلاد البالغ عددهم حوالي 7 ملايين نسمة هم من اختاروا القيادة الاسمية للبلاد.
كما أن هناك مزيدا من المؤسسات التي تطالب بدرجات من السلطة: المجلس الرئاسي الذي أنشئ كجزء من ملتقى الحوار الوطني الليبي، والمجلس الأعلى للدولة الذي أنشيء كجزء من الاتفاق السياسي الليبي. وكل هذه العمليات السياسية المستقلة التي ترعاها الأمم المتحدة منذ سنوات عديدة، عبر الكثير من المنتديات المختلفة في ليبيا والدول الإقليمية الأخرى وأوروبا، لم يثمر أي منها شيئا إما بسبب أطراف ليبية معرقلة أو جهات خارجية مفسدة.
يكمن الجذر الأساس لهذا الوضع السياسي في تهديد خليفة حفتر الدائم بالحرب، والأهم تهديد حلفائه الروس. فقد شن حفتر حربه على طرابلس 2019-2020 بدعم كبير من المرتزقة الروس، بما في ذلك القناصة والمسيّرات والأنظمة المضادة للطائرات. إلا أن حكومة طرابلس السابقة تمكنت أخيرا من صد تقدمه بمساعدة تركيا. ومع ذلك، عمقت روسيا علاقتها مع حفتر. ومنذ وفاة يفغيني بريغوجين قائد ميليشيا "فاغنر" العام الماضي، تتودد وزارة الدفاع الروسية الرسمية وفيلقها الأفريقي إلى حفتر. فزاره نائب وزير الدفاع الروسي يونس بك يفكوروف مرات عدة، كما أنه التقى بوتين في موسكو. وتواصل روسيا بناء البنية التحتية في ليبيا لتعزيز طموحاتها في منطقة الساحل الليبي وكي تشكل تهديدا لـ"الناتو". كما أن وجودها منح حفتر وابنه صدام الثقة لتحدي خط وقف إطلاق النار الذي اتفق عليه في أكتوبر/تشرين الأول 2020، والذي ظل صامدا معظم الوقت في السنوات الأربع الماضية.
أزمة اقتصادية
إذا نظرنا إلى ليبيا من بعيد، فلا بد من أن تكون في وضع مالي مريح. فمع تجاوز إنتاجها من النفط المليون برميل يوميا، ومع توفر أساس متين من احتياطيها من العملة الأجنبية بالمليارات وبغياب ديون ذات قيمة، إضافة لمليارات أخرى لا تزال مجمدة في هيئة الاستثمار الليبية منذ أيام القذافي، ينبغي أن تكون ليبيا قادرة على توفير احتياجات مواطنيها بسهولة ويسر. بيد أن السكان لم يستفيدوا من كل ذلك، ويرجع السبب إلى الفساد المستشري وغياب المساءلة وسوء إدارة الاقتصاد. ومع كل هذه الأموال، لم يكن يحدث أي تطوير للبنية التحتية العامة. وتخصص الميزانية السنوية دوما عند إصدارها فعليا، لدفع رواتب القطاع العام الهائلة وتوفير الدعم غير الفعال، ولا سيما دعم الوقود. كما أن جعل الغاز مجانيا بشكل أساسي لا يؤدي إلا إلى تحفيز التهريب. بينما لا يخصص للتنمية إلا جزء صغير من الإنفاق الحكومي الرسمي.