لم تعش الشاعرة اليمنية فاطمة العشبي (1959-2021) حياة اعتيادية مثل أي امرأة يمنية أو عربية. لقد كان صوتها المتمرّد، سواء في الشعر أو في الرأي، حديث الناس. أما سيرتها التي كانت تحكيها لأصدقائها وصديقاتها، وتقدّمها كشهادة في الندوات، فأقلّ ما يقال عنها إنها مدهشة.
كانت فاطمة تطمح إلى كتابة سيرتها الذاتية بعنوان "بنت الشيخ" بعد تحفيز من أصدقائها، لكنها رحلت قبل أن تنجزها. لذلك، بادر عدد من أصدقائها (عبدالمجيد التركي ومحمد عبده الشجاع وأفراح سهيل) بجمع ما تناثر من سيرتها وشعرها في وسائل الإعلام ونشره في كتاب عن دار "عناوين" في القاهرة بعنوان "فاطمة العشبي.. سيرة مجروحة".
في هذه السيرة، نعلم أن أحدا لم يكن يهتم بتعليم فاطمة في طفولتها لكونها فتاة، لذلك وجدت نفسها تقلّد أحد الأولاد الذين أتيح لهم تعلّم القراءة والكتابة، مما فاجأ أباها، شيخ القبيلة، بنبوغها. فقام بتوفير المعلّمين المتمكنين لها، فدرست، إلى جانب القرآن، المتنبي وامرأ القيس وأحمد شوقي، حتى وصلت إلى مرحلة استطاعت فيها أن تقول الشعر العاطفي الغنائي وليس القراءة والكتابة فقط، الأمر الذي أغضب والدها، فعرضت للضرب وفرضت عليها رقابة مشددة. حتى أن والدها كان يجمع قصاصات الورق الممزقة ليكتشف ما كتبته ابنته ذات الاثني عشر ربيعا، بل إنه هددها بقطع يدها إذا واصلت كتابة الشعر. ولخوف والدها من أن تذهب بعيدا مع الشعر، زوّجها وهي في الثانية عشرة من عمرها من رجل يكبرها بثلاثين عاما.
كان والدها يجمع قصاصات الورق الممزقة ليكتشف ما كتبته بل إنه هددها بقطع يدها إذا واصلت كتابة الشعر
هذا الرجل لم يدخل بها إلا بعدما هدّده والدها بمسدس، وكان يهدف إلى التأكد من سلامة عذريتها.
في أحد التسجيلات، قالت فاطمة: "أنا من الريف اليمني، ووالدي كان شيخ القبيلة، ومن الضروري أن يكون للشيخ أولاد. أول ما أنجبتني أمي انزعج لأنني أنثى، فرباني على أنني ولد في البداية، ثم عندما بدأت أكبر قليلا بدأ يقمعني ويريد أن يكبح جماحي، مع أنه رباني تربية الولد، لبّسني لبس الولد، علمني الرماية وركوب الخيل والمشي بين الرجال في كل المحافل".
لم ترضخ فاطمة للقسوة التي مورست عليها وبقيت ترفض العيش مع الزوج حتى طُلب منه أن يهاجر فترة ثم يعود، ربما تكون قد "عقلت". وعلى مستوى حياتها اليومية، كانت تتصرّف كفتى، فحين كانت في عمر 15 و16 سنة "وبمجرد ما أن يسافر والدها، تقوم على الفور بجمع البنات، ومن ثمَّ تعلن التمرد على القبيلة كلها، تحمل السلاح وتصنع من الحبر الأسود شاربا يعطيها قوة إضافية لاستشعار الفتوة، تذهب إلى الحقول والمراعي حاملة السلاح وتطلق النار في الهواء ومن خلفها عدد من الفتيات"، كما جاء في الكتاب.
ولأن هذا التجمع صار مخيفا لدى سكّان القرية ولم يستطع الأب كبح حركة ابنته وسيطرتها على الأسلحة التي تأخذها من المخازن، فكر بوضع نهاية لها وشرع في حفر قبر لدفنها فيه. لكنها، ما أن وصلها حكم أبيها، حتى استعدت للهرب بمساعدة الفتيات. ارتدت ملابس رجالية وحلقت شعر رأسها، ثم انطلقت في اللحظات الأولى من الليل بعد أن أخذت نقودا وذهبا وسلاحا خفية من والدها. مشت في مناطق يمنية كثيرة وسط الظلام وكانت تهدف الوصول إلى صنعاء.
في الطريق، رفضت امرأة أن تؤجر لها حمارا لتركبه إلى المدينة، وبقيت تعاني من الوحشة وتورم قدميها بعد تمزق حذائها، إلى أن مرّت سيارة فأخذها ركابها معهم إلى مشارف صنعاء بعد أن عرفوا أنها فتاة. وهناك، لجأت إلى امرأة لتغيير ملابسها واستعادة هيئتها النسوية مقابل مبلغ من المال. ولأن فاطمة عُرفت بجمالها الفاتن، فقد عاملها كل من قابلها كمجنونة، خاصة أنها، كما قالت، كانت توزع الذهب والمال الذي أخذته بلا حساب. بقيت تحرّك عينيها كثيرا خوفا من أبيها الذي كانت تشعر أنه يطاردها. وبالرغم من تخوف أصحاب السيارات من أن يحملوا معهم امرأة يظنون أنها مجنونة، استطاعت فاطمة الوصول إلى صنعاء.
كتبت القصائد المتمردة والهجائية بكل أنواعها واشتهرت بمناصرتها للقضايا القومية
في صنعاء، نزلت عند أسرة معروفة لدى عائلتها فأخذوها إلى بيت وزير العدل القاضي السمان الذي اهتم بها ورعاها هو وزوجته بعد أن سمع قصتها، لكنه ما أن عرف أن أباها هو الشيخ علي العشبي حتى ارتبك وقال: "هؤلاء الناس لا نقدر عليهم". وسرعان ما أمر بتحويلها إلى رئيس شؤون القبائل، وهناك بدأوا بتطبيبها من أثر التعب والحمى، وكان رئيس شؤون القبائل خائفا لأن أباها زميله في مجلس الشعب التأسيسي. لذلك، عمل على تهريبها إلى تعز (جبل صبر)، وهي في حال حمى لا تعي شيئا.
بعد رحلة شاقة، تكفّل أحد الشيوخ برعايتها وأعادها إلى والدها شرط ألا يمارس ضدها أي عنف. إلا أنها ما أن وصلت منزل عائلتها حتى فكرت بالهرب مجددا، لكنها هذه المرة خططت لهرب جماعي يضم عددا من الفتيات، إلا أن زوج أختها اكتشفهن ومنعهن، وترجاها أن تبقى حتى يأتي والدها، ثم سيقوم هو نفسه بتهريبها.
هناك تفاصيل كثيرة تحكيها فاطمة العشبي عن حياتها مع زوجها الأول وسفرها معه إلى السعودية، ومن ثم العودة إلى اليمن. تتحدث عن معاركها وكيف فقدت ذاكرتها في كثير من الأحيان بسبب ما لحقها من ضرب، حتى أن الأطباء هددوا زوجها بأنه في حال لم يطلقها سيبلغ عنه لمركز الشرطة، أو ستحول إلى مستشفى المجانين.
لم تنشر فاطمة أولى قصائدها إلا بعد طلاقها، وهنا بدأت حياتها الصاخبة من خلال مشاركتها في الحياة الاجتماعية، فكتبت القصائد المتمردة والهجائية بكل أنواعها واشتهرت بمناصرتها للقضايا القومية، واستقبلها الرئيس العراقي صدام حسين. بالرغم من أنها لم تكن على وئام مع السياسيين الذين لم يسلموا من هجائها، قبل أن تغادر إلى لندن وتموت هناك.