ألّف رولان بارت (1915- 1980) - وهو من رواد السيميائية أو السيميولوجيا البنيوية (علم قراءة الدلالات أو العلامات)، والمتأثر باللسانيات أو الألسنية، والناقد الأدبي والمنظّر في اجتماعيات الأدب، وصاحب مقولتي انفصال النص الأدبي عن مؤلفه وموت المؤلف، وأستاذ الاجتماعيات في "كوليج دو فرانس" - ألف كتابا تطبيقيا في السيميائية، قرأ أو استقرأ أو استنطق فيه العلامات والإشارات البصرية العابرة التي تراءت له في زيارته اليابان سنة 1969، ومن ثم نشره بالفرنسية في عنوان "إمبراطورية العلامات".
اليوم، بعد ما ينوف عن 50 سنة، نقل الكتاب إلى العربية المترجم توفيق قريرة، أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية، ونشرته منتصف هذا العام (2024) "دار الجمل"، الشارقة - بغداد، بعدما كانت بيروت مقرها، قبل انهيار لبنان في العام 2019.
وكان بارت زار اليابان تلبية لدعوة تلقاها من الكاتب الفرنسي في الأنثروبولوجيا والثقافة اليابانيتين، ومدير المركز الثقافي الفرنسي في طوكيو، مورس بانفاي. لذا يمكن اعتبار "إمبراطورية العلامات" كتابا في الرحلة، أو في قراءة المشاهد والعلامات والإشارات البصرية التي تلتقطها عين مثقف وكاتب غربي (فرنسي) من يابان الشرق الأقصى، وتقرأه بحساسية سيميولوجية ثقافية أوروبية أو غربية، لكنها تجتهد حوارية، بألا تضع مخزونها الثقافي الغربي في مركز العالم والنظر إليه.
يبدو كتاب بارت اليوم تمرينا في الثقافة البصرية وتثقيف البصر، وفي التفكير والكتابة بصريا
لقارئ عربي يبدو كتاب بارت اليوم تمرينا في الثقافة البصرية وتثقيف البصر، وفي التفكير والكتابة بصريا. لكن قبل أن تجتاح الثفافة السمعية - البصرية العالم، وتمسي المصدر الأول والأساس للثقافة الجماهيرية أو الشعبية العامة والمعولمة، وتصير العين عدسة كاميرا تبتلع ألوف الصور اليومية العابرة كيفما اتفق وعلى غير هدى، وليسكن الناس في الصور وتسكنهم الصور. كأنما العالم صار صوريا خالصا، وكذلك الكائن البشري الذي يكاد يتوارى ويختفي وتبتلعه الصور.
وقد يتراءى لنقاد وعاملين في مجال الفن المعاصر أن كتاب "إمبراطورية العلامات" معلم استباقي لذاك الفن التشكيلي المفهومي البصري الجديد (البرفورمانس أو التجهيز) الذي برز وانتشر وذاع صيته وأصبح فنا مستقلا في مطلع التسعينات. أي بعد نحو 30 سنة من نشر بارت كتابه بالفرنسية. وهو فن ربما ولد من تلاقح كيميائي بين فن التصوير الفوتوغرافي وفن العمارة وأفلام الفيديو كليب والسينما التسجيلية وبعض الثفافة الانثروبولوجية وثقافات الحياة اليومية ومشاهدها ما بعد الحداثية.
لكن معْلم بارت الاستباقي هذا لفن التجهيز، هو على خلاف هذا الفن، مترع بثقافة أدبية وفلسفية وفنية رفيعة وشديدة النخبوية. فبارت في عمله الكتابي وفي كتابته الفنية السيميولوجية يستعين بفن التجهيز جزئيا كرسوم وصور إيضاحية لنصوصه التي تختلط فيها الفلسفة بالانثروبولوجيا بذائقة الفن التشكيلي والشعر.
وها هو بارت يكتب مستهلا نصوص أو شذرات "إمبراطورية العلامات" بما يشبه إيضاحا أو دليلا لقراءة لكتابه، بعد إهدائه إلى من دعاه لزيارة اليابان: "لا يعلق النص على الصور. والصور لا توضح النص: كل منهما لا يعدو كونه عندي سوى بداية لنوع من التأرجح البصري. (...) يريد النص والصور، إذ يتشابكان، أن يضمنا لهذه الدوال التي هي الجسد والوجه والكتابة تداولها وتبادلها وأن يقرأ المرء فيها تراجع العلامات".
لكن أين نحن اليوم من استباق بارت هذا، الفائت أو المفوت في الثقافة العربية ومجتمعاتها، المشرقية منها على وجه التخصيص؟ فها التفكك والتدمير يجتاحان هذه المجتمعات. وها العمران والعمارة والكتابة تغرق في عصر انحطاط جديد. والترجمة من اللغات الأخرى إلى العربية في أسوأ أحوالها.
تمرد الستينات الشبابي وآثاره
يلاحظ مترجم الكتاب إلى العربية أن زيارة بارت لليابان جاءت بعد سنة من حدث فرنسي، بل عالمي كبير: ثورة الطلاب والشباب في مايو/أيار 1968 الفرنسي، والذي كان تأثيره الثقافي والفكري وعلى الفكر السياسي والفن والكتابة أقوى منه على السياسة المباشرة. ويرى البعض أن تلك الثورة استلهمت في بعض وجوهها كومونة باريس العمالية التي حدثت قبل قرن، أي في العام 1871، وكان لها أثر كبير في الفكر الاشتراكي والشيوعي.
لكن مايو/أيار 1968 الفرنسي لم يكن فرنسيا فحسب. فهو تزامن مع ربيع براغ ضد الخريف السوفياتي الشيوعي الماحق في أوروبا الوسطى والشرقية. وهو الربيع الذي شكل مصدرا أساسيا من مصادر إلهام الروائي الكبير ميلان كونديرا (1923 - 2023) الذي صنف نفسه إبنا لتراث أوروبا الوسطى والغربية الروائي. وهذا ما حمله على الفرار من بلده الشيوعي (تشيكوسلوفاكيا) ومدينته براغ، إلى باريس.
وهناك من يعتبر أن النصف الثاني من الستينات والأول من السبعينات، كانا سنوات التمرّد الطالبي والشبابي على صعيد العالم كله. والمعروف أن تلك التمردات كان لها تأثيرها البالغ على الفكر الأوروبي الذي انعطف منعطفا جديدا، لا سيما في فرنسا، مع رولان بارت وميشال فوكو وجيل دولوز وفيليكس غوتاري وجان بودريار وجاك ديريدا وجاك لاكان... الذين أوحت لهم التمردات إياها بنظرة جديدة إلى الحياة والعالم وتاريخ الأفكار في أوروبا الرأسمالية. ومن ذلك أيضا تعاطف مثقفين وكتاب وناشطين أوروبيين ومن العالم مع حركات التحرر الوطني، ولا سيما حركة المقاومة الفلسطينية في النصف الثاني من الستينات والأول من السبعينات.
من آثار تلك المنعطفات بروز تيار فكري وثقافي أوروبي مناهض لـ"المركزية الأوروبية" في نظرته إلى العالم وتاريخه
ومن آثار تلك المنعطفات بروز تيار فكري وثقافي أوروبي مناهض لـ"المركزية الأوروبية" في نظرته إلى العالم وتاريخه. ومن هذا التيار ولد التيار اليساري الأوروبي الجديد، المعروف بـ"العالم ثالثي"، والذي رأى أن الثورات والتغيير على الصعيد العالمي منطلقهما ما كان يسمى "العالم الثالث" غير الأوروبي، على اعتبار أن الاتحاد السوفياتي كان "العالم الثاني" المناوئ للرأسمالية الغربية في زمن الحرب الباردة.
غرب يحتفي بالأشكال وشرق يطمسها
والأرجح أن رولان بارت، في قراءته البصرية العلامات والإشارات، أثناء رحلته في يابان الشرق الأقصى، كان مزوّدا ما أشاعه ربيع براغ من تمرّد على الشيوعية الإشتراكية السوفياتية بجلافتها الماحقة للثقافة الفردية. ومزود كذلك ما أشاعه مايو/أيار 1968 الفرنسي من تمرد من نوع آخر على كسل في الأفكار وسأم من العيش ونظام الحياة اليومية والقيم في أوروبا دولة الرعاية الرخاء والرفاه الرأسمالي، ومن اعتبار أوروبا مركز العالم وثقافته، ونمط الحياة فيها هو النموذج العالمي الأمثل. لكن بارت، كان مزودا أيضا قراءته مكتبة كبرى من المؤلفات الفلسفية والأدبية الأوروبية، والأنثروبولوجية عن ثقافات العالم الأخرى وأنماط عيشه غير الأوروبية.
وهو ذهب إلى اليابان باحثا عن روح ثقافية أخرى غريبة عن ثقافته الأوروبية، رغم أنه لا يتقن اللغة اليابانية، وغير مزود مسبقا شيفرة محدّدة لقراءة ما يشاهده ويبصره في اليابان من علامات وإشارات. وحسب مترجم "إمبراطورية العلامات" اليابانية إلى العربية، كان بارت يتصور "الغرب صلفا يعتني بالأشكال والقوالب الجاهزة، يجترها ويحتفي بها. أما الشرق (الياباني) فيطمس الأشكال ويشتت المعنى (...) ويزيد [أو يضاعف] الحدود بين الأضداد، وينفخ في العلامات أرواحا أخرى".
لكن هذه الأرواح الأخرى ليست ابنة الثقافة اليابانية وحدها، ولا هي بمستقلة عما تنفخه مَشاهدها في مُشاهدها، ولا عما ينفخها هو فيها، أثناء قراءته واقتفائه أثر علاماتها، وكتابته ذلك الأثر نصوصا فنية في السيميولوجيا البصرية التحليلية التثاقفية التي يختلط فيها المشهد الياباني بالثقافة الأوروبية.
الفراغ الياباني ولا امتلاء
وعلى خلاف عمل بارت وأعماله التي استقرأت وسبرت العلامات والإشارات والصور في نصوص أدبية فرنسية، جاء كتابه عن اليابان قراءة بصرية خالصة لثقافة الحياة اليومية اليابانية بمظاهرها وإشاراتها: الطعام والمطبخ والسلع (الهدايا) والملابس والأزياء والوجوه وأشكال حركة الأجساد وتبادل التحيات والنظرات وأشكال العيون والتعبير الجسدي الصامت وعروض المسرح ومقاربتها كأشكال بصرية خالصة، شأنها شأن الكتابة والحروف والعمران والعمارة اليابانية. وهذا إضافة إلى شعر الهايكو الياباني الذي قرأه بارت مترجما إلى الفرنسية، لكنه قاربه مقاربة سيميائية، كأنه عمل تشكيلي أو لغة تشكيلية تفضي أو تتراسل مع نبض الحياة اليومية وأشيائها وثقافتها، التي كان ألف عن نسختها الشعبية أو الجماهيرية كتابا عنوانه "أساطير" أو "أسطوريات"، خصّص شطرا منه لقراءة الإعلانات وفن الدعاية وأثرها في حياة الناس، وتطرّق إلى الألعاب الرياضية، ومنها الملاكمة والمصارعة الحرة.
لكن ما يميز الشكل أو التشكيل الياباني الشرقي عن الأوروبي الغربي أن الأول لا مركز له ولا محور، وغير ممتلئ، بل إن الفراغ هو نواته ومركزه ومحوره.
الغرب صلف يعتني بالأشكال والقوالب الجاهزة، يجترها ويحتفي بها. أما الشرق فيطمس الأشكال ويشتت المعنى
ففي عنوان "وسط البلد (المدينة؟) وسط فارغ" يكتب رولان بارت أن المدن في "الغرب، ولأسباب عدة (تاريخية واقتصادية ودينية وعسكرية)، مركزية" كلها. وهي لذلك "تورث ضيقا عميقا". وهذا ما دام "لكل مكان حضري [في الغرب] مركز، إليه يذهب الناس ومنه يعودون (...) ويكون منطلقهم أو مرجعهم. وهو باختصار مكان يخترع فيه المرء نفسه (...) ويكون مكان الحقيقة، ودائما يكون ممتلئا" ومركزيا.
أما في اليابان فليس من مركز للمدينة ولا للحقيقة، وليس من حقيقة مركزية. و"إذ يوجد في طوكيو مركز، فهو مركز فارغ. فأحداث المدينة بأكملها تدور حول لعبة" من الامتناع واللامبالاة: "مسكن يتوارى خلف الخضرة وتحميه خنادق مائية ويسكنه إمبراطور لا يراه أحد". هذا هو مركز طوكيو الذي "يخفي اللاشيء المقدس".
أما إذا نقلنا هذه الرؤية البارتية عن مركز طوكيو الذي يختفي فيه الإمبراطور المقدس، الذي يصفه بارت بـ"اللاشيء"، إلى المدن والعواصم العربية - صنعاء وبغداد ودمشق وبيروت - فإن مراكز السلطان المقدس والفائض الامتلاء فيها، غالبا ما يدمرها ويميتها.
المثال الأقرب والأسطع على ذلك هو وسط بيروت المديني الذي أعيد إعماره وإحياؤه بعد حرب أهلية دمرته. لكن قوة سلطانية غامضة أو شبه سرية وعلنية في آن واحد، سرعان ما حولته مسرحا للاغتيالات والقتل والموت.
منمنمات الطعام... كأغنية فيروزية
ويستغرق وصف أطباق الطعام الياباني، المواد المستعملة في طهيه، كمياتها وأحجامها، أساليب طهيه، تقديمه، بل عرضه بصريا، في الصحون، وأدوات وطريقة تناوله، وكذلك وصف الهدايا، توضيبها وأشكال تبادلها، والدلالات التي تحف بذلك وعلاقته الشكلية الحميمة بقصائد الهايكو اليابانية... يستغرق هذا كله أكثر من نصف صفحات كتاب "إمبراطورية العلامات".
فـ"الطعام الياباني يستمد من الرسم خاصته البصرية"، وهو يشبه المنمنمات، وكذلك قصائد الهايكو الشبيهة بدورها بمنمنمات صغيرة. وإذا كان الطعام الغربي "المتراكم والكريم والمتضخم تضخما يدنيه من الجلال، والمرتبط ببعض صفات الوجاهة"، فإن الطعام "الشرقي (الياباني هنا) يتبع حركة معاكسة: يزهر ذاهبا شيئا فشيئا نحو اللامتناهي في الصغر".
فحضور الخيار مثلا وسواه من الخضروات في الطهي - وهي غالبا ما تقدم نيئة ومقطعة صغيرة في الأطباق اليابانية - "ليس في تكديسها ولا في ضخامتها، بل في تقطيعها وتوضيبها الفني الدقيق. وهذا تماما على نحو حضور الخيار في قصيدة هايكو: "خيار مقطع/ عصيره يتدفق/ راسما قوائم عنكبوت". أما أعواد تناول الطعام الياباني، فمتصلة "وظيفيا" بالتقطيع والتصغير والنمنمة. ثم إن حركة العودين وشكلهما أثناء تناول الطعام، "تسموان على المادة وأداتها".
خلاصة القول البارتي في هذا المجال هي: "يقف عود تناول الطعام الياباني على طرف نقيض لسكيننا [في الغرب] وبديلها المفترض، الشوكة. إنه الأداة التي ترفض أن تقطع، تختطف وتخدع وتثقب". فهذه "حركات مرفوضة" في تناول الطعام لدى اليابانيين.
ويذهب بارت بعيدا في تأملاته الشكلية: "ليس الطعام (الياباني) فريسة تستدعي العنف"، بل هو "مادة تنْقل برشاقة"، حتى لتتحوّل "غذاء للطيور، ويتحول الأرز (الذي يخالطها) إلى موجة من الحليب". والحليب هنا يستدعي، حسب الكاتب، "حنو الأمومة الذي يقود العود إلى المنقار، تاركا لعاداتنا الغذائية (الغربية) المسلحة بالحراب والسكاكين، حركة الافتراس".
الومضة اختبار مكثف لما لا يمكن استعادته إلا بالكتابة وفي الكتابة التي تضيء العالم المادي
حينما وصف بارت الطعام الياباني على هذا النحو، لم تكن العولمة التي نعرفها اليوم بدأت بعد، ولا شرعت في نقل فنون طبخ الشعوب المختلفة والمتباينة إلى جهات العالم ومدنه وعواصمه، أي تسويقها عالميا وعولمتها. ولا ندري إن كان وصف بارت هذا ساهم في إقبال الذوق الغربي على طلب أطباق السوشي اليابانية المنمنمة والملونة، كأنما بألوان مائية شبيهة بأغنية فيروزية من لبنان الستينات الذي تحول ركاما اليوم.
وفي التسعينات البيروتية - حينما شرعت العولمة تنتشر وتتعمم بالتزامن مع خروج لبنان من حروبه الأهلية وإعادة إعمار وسط بيروت - سارعت النخب البيروتية واللبنانية، وخصوصا فئاتها العمرية الشابة والمحدثة والعائدة إلى بلدها من المغتربات الأوروبية، إلى الطلب على أطباق السوشي اليابانية في المطاعم البيروتية. وهذا يعني أن المنتجات والذوق اليابانيين ما كانا ليصلا إلى بيروت وجهات العالم الأخرى، إلا من طريق أوروبا. لكن الذوق الياباني بفنون منمنماته، تزامن حضوره في أوروبا مع تزايد نشاط جماعات الحفاظ على البيئة وأحزاب الخضر ونزع السلاح النووي فيها وفي العالم.
الهدايا وقصائد الهايكو
أما الهدية اليابانية فمثل المدينة التي بلا مركز، أو التي يكون الفراغ مركزها. فالعلبة الخشبية التي توضع فيها الهدية، و"العناية الفنية" التي تصْرف في تحضيرها وتشكيلها وتغليفها بالورق المقوى والشرائط، ليست "إكسسوارا" خارجيا يحوي شيئا منقولا من مكان إلى مكان، لتقديمه هدية. بل إن العلبة وفن تغليفها هما "الموضوع" في ذاته ولذاته. وذلك "لتأجيل اكتشاف الشيء الذي تحويه العلبة، وغالبا ما يكون بلا قيمة: حلوى، عجينة صغيرة من الفاصوليا الحلوة، ذكرى مبتذلة".
لكن هذه الأشياء النافلة توضب بفخامة كأنها "قطعة حلى"، لتصير العلبة موضوع الهدية وليس ما تحتويه. وهكذا تصير وظيفة العلبة وتغليفها تأجيل اكتشاف ما تحتويه، لا حمايته. وما في داخلها "يفقد وجوده ويصير سرابا"، فيما يزال عنه غلاف تلو غلاف تلو غلاف، للوصول إلى ذلك اللاشيء أو الفراغ، الشبيه بمركز المدينة اليابانية الذي يشغله ويختفي فيه الإمبراطور المقدس.
ألا يشبه هذان الفراغ والتأجيل الحياة نفسها، الوجود والرغبة واللذة؟
وقصائد الهايكو "لا تصف البتة"، على خلاف الفن الغربي الذي يحول الانطباع إلى وصف، فيما يميل فن الهايكو "إلى الرسم، إلى اللوحة".
"القمر بدرا/ وعلى الحصير/ ظل شجرة صنوبر".
"في منزل الصياد/ رائحة السمك المجفف والحرارة".
"رياح الشتاء تنفخ/ عيون القطط تومض".
أخيرا هناك الفراغ الذي يسكن "المنزل الياباني المثالي، الخالي من الأثاث". والفضاء بدوره، يقبل أن "ينقلب، لأنه بلا مركز". فالأعلى يمكن أن يصير أسفل، واليمين شمالا أو يسارا.
ويتساءل بارت: هل اليابان إمبراطورية علامات؟ نعم، يجيب، لكن في حال كانت العلامات فارغة، والشعائر بلا إله.
الكتابة البصرية... وجهاز الضياع
ويختم بارت كتابته عن المدينة اليابانية بالإشارة إلى أن التعرف إليها يحدث بنشاط "إثنوغرافي". ذلك أن شوارعها بلا أسماء. هناك عناوين مكتوبة، لكنها "تحيل إلى المسح العقاري، ويمكن لساعي البريد، وليس للزائر، أن يصل إليها". لذا "على المرء أن يقود نفسه بنفسه" في هذه المدينة، لا بواسطة كتاب دليل أو عنوان مكتوب، بل "بالمشي والبصر والعادة والخبرة". وهذه تؤدي إلى متعة "الاكتشاف" الذي ليس سوى "لهو مكثف وهش". لكن "لا يمكن أن نستعيد ما اكتشفناه إلا بتذكرنا الأثر الذي تركه فينا" ذلك الاكتشاف اللاهي.
ويستنتج بارت أن "زيارة مكان ما للمرة الأولى تعني البدء في كتابته". والحق أن ما كتبه صاحب "أسطوريات" و"مقتطفات من خطاب عاشق" و"الدرجة صفر للكتابة"، في كتابه عن اليابان يعتمد فن "الومضة"، حسب مقدمة المترجم. الومضة بوصفها اختبارا مكثفا لما لا يمكن استعادته إلا بالكتابة وفي الكتابة التي تضيء العالم المادي الحسي المرئي بحساسية سيميولوجية بصرية.
كمشي الغريب في شوارع مدن غربية بلا دليل ولا عناوين، هي الكتابة البارتية في "إمبراطورية العلامات". والكتابة هذه هي "سياحة" بصرية، لكنها على النقيض من السياحة المنظمة التي نعرفها اليوم في عالمنا الراهن. فالسياحة البارتية سياحة في المجهول، والتقاط مشاهده وعلاماته باعتبارها لغة حياة مرئية، قراءتها وتأويلها بلا أفكار مسبقة ولا إسقاطات جاهزة، وباختبار حواسنا وثقافتنا اختبارا جديدا يترك أثرا لا سابق له.
السياحة البارتية سياحة في المجهول، والتقاط مشاهده وعلاماته باعتبارها لغة حياة مرئية
وفي ضوء الاختبار والكتابة البارتيين في اليابان، يحضر اليوم مشهد تدفق البشر الكثيف في شوارع مدن العالم وفي وسائل المواصلات والنقل العام. وها هم يتدفقون حاملين أجهزة هواتفهم الذكية، ومنصرفين عن العالم الفعلي والحقيقي من حولهم إلى عالم تلك الشاشات الافتراضي. كأنما العام كله - كلاما وصورا ومشاهد وأفكارا وتواصلا ومشاعر وحركات وأصواتا ولغات وموسيقى وأغاني... حاضر على تلك الشاشات الصغيرة التي لا تتجاوز مساحة الواحدة منها كف اليد، وتحدق العيون فيها تحديقا أخرس صامتا.
نعم، لقد اختصرت هذه الشاشة عالم البشر كله، وصارت دليلهم الوحيد إليه. وهي ترشدهم إلى كل شيء فيه: العناوين والسلع والرغبات والكلمات والأعمال والإشارات والعلامات والعلاقات وشؤون الحياة اليومية ومشاغلها برمتها.
أما إذا فقد أحدهم هذا الجهاز الصغير، فينتابه شعور عارم بالضياع التام، كأنه أضاع نفسه وفقد ذاكرته ووعيه والعالم من حوله. أو كأنه ولد هنا الآن وفجأة وسط الشارع في الزحام، ويستحيل عليه أن يخطو خطوة واحدة أو يدرك أين هو ومن يكون وماذا يفعل هنا وإلى أين يتوجه.