لا تكاد تمر نشرة إعلامية واحدة دون إشارة إلى التوقعات والأخبار والتسريبات الخاصة بلقاء الرئيسين السوري بشار الأسد والتركي رجب طيب أردوغان، مصورة الأمر وكأنه "لحظة نهاية الصراع السوري". تفعل ذلك، لكن دون أن تتجرأ على طرح السؤال الأصعب: ماذا بالنسبة لأكثر من نصف الشعب السوري؟ أربعة ملايين في إدلب وباقي مناطق النفوذ التركي، وخمسة ملايين ضمن مناطق الإدارة الذاتية "الكردية" في شمال شرقي سوريا، يضاف إليهم قرابة ستة ملايين سوري يعيشون في الشتات الإقليمي، في تركيا ولبنان والأردن والعراق وباقي الدول.
هؤلاء السوريون الخمسة عشر مليونا ليسوا رقما أو مادة خاما، يُمكن إعادة تدجينهم وبلورة حياتهم ومستقبلهم حسب توافقات سياسية فوقية، خاضعة لحسابات الرئيس أردوغان الداخلية أو توافقات سياسية إقليمية، أو حتى الدولية. لأنهم بمعنى ما "شعب كامل"، شيّد قدرته على تقديم كل هذه التضحيات وصاغ هويته السياسية ومجمل مستقبله المنظور وفق حساب وحيد، هو استحالة العودة إلى ما كان عليه قبل العام 2011. لأن ذلك الأمر لو كان ممكنا أساسا، لما وصل هؤلاء إلى هذا المستوى من القطيعة وتقديم التضحيات ورفض الإذعان وقبول مهانة الشتات، لخضعوا وقبلوا هزيمتهم العسكرية أمام النظام الحاكم، ولاعتبروا ما جرى خلال عقد ونصف مجرد فاصل عابر في تاريخهم السياسي، كما تبني تركيا استراتيجيتها السياسية الراهنة.
قبل قرابة قرن من الآن، كانت كوريا الموحدة وقتئذ قد شهدت مناخات وتحولات داخلية شبيهة بهذه، تضافرت مع ظروف وأشكال تنافس دولية وإقليمية محيطة بها، وأدت في المحصلة إلى انقسام جغرافي وسياسي تاريخي أصاب شبه الجزيرة الكورية. وما استطاعت كل الدعاية وكامل التأريخ الرسمي والخطابي للدولتين الكوريتين، طوال أكثر من قرن كامل، تقديم تفسير ووعي لأسباب ذلك الانقسام الجذري الذي أصاب الشعب الكوري الواحد، دون الرجوع إلى الجذور الأولية والتأسيسية لما جرى. فليس صحيحا كما تدعي كوريا الشمالية منذ عقود، أن شريكتها الجنوبية "مجرد مشروع إمبريالي"، وبعيد عن الدقة قول هذه الأخيرة إن مشكلة الشمال متأتية من "النظام الديكتاتوري" فحسب.
في سياق وتفاصيل شبيهة بـ"الحكاية السورية"، قامت ثورة فلاحية في جنوب مملكة كوريا في أواخر القرن التاسع عشر، مناهضة لآخر أباطرة مملكة جوسون الكورية، التي دام حكمها الاستبدادي أكثر من خمسة قرون، عزلت خلالها كوريا والكوريين عن العالم الخارجي وتحولاته، وأرادت خلال آخر قرنين من عمرها الاستمرار في الحُكم لعبا على توازنات القوى الكبرى المحيطة بها، اليابان والصين وروسيا، وفي مرحلة لاحقة بريطانيا وفرنسا الاستعماريتين.
طلب المنتفضون الجنوبيون الدعم من الصين، وحين تدخلت هذه الأخيرة اصطدمت مع اليابان، التي اعتبرت تدخل الصين مسا بالتوازن الإقليمي، وحدثت حرب طاحنة بين اليابان والصين في صيف العام 1894، بأدوات كورية، قتل الجيشان الياباني والكوري خلالها عشرات الآلاف من سكان الجنوب، ودمرا أغلبية القرى والبيئة الزراعية هناك. انتهت الحرب بعد عام، هيمنت اليابان على كوريا، ووقعت الصين "معاهدة شيمونوسيكي"، والتزمت بعدم دعم المتمردين الكوريين.
لم تكن تلك إلا بداية القصة الكورية. فبعد توقيع المعاهدة بستة أيام فحسب، طالبت روسيا وفرنسا وبريطانيا اليابان التخلي عن شبه جزيرة لياودونغ، فالدول الثلاث كانت لها مصلحة مشتركة مع الصين، بعد عقود من انتهاء "حرب الأفيون" مع بريطانيا، ورغبة روسيا نشر سكك حديد عبر منشوريا الصينية نحو سيبيريا، فيما كان نشر الكاثوليكية في كوريا يغري الفرنسيين.
بناء على ذلك، طلبت الملكة الكورية "مين" دعم روسيا لكسر النفوذ الياباني، فاغتالها الحاكم الياباني "ميورا جورو"، فلجأ زوجها الملك إلى مقر البعثة الروسية. وحدثت الحرب اليابانية -الروسية خلال عقد، هيمنت روسيا على كوريا سياسيا، لكن ذلك كان سببا لاندلاع الحرب اليابانية/ الروسية بعد أقل من عقد. كانت كوريا مسرحا لتلك الحرب الطاحنة وانقسم الكوريون بسببها: فأكثر من ربع مليون كوري عملوا مع القوات اليابانية، آملين في أن تكون التحولات التحديثية والعلاقات الممتازة التي تجمع اليابان بدول الغرب لصالح نهضتهم مستقبلا، لينهوا البنية السياسية/ الدينية التقليدية. في المقابل، رهن المرتبطون والموالون للنظام الملكي والعادات الدينية التقليدية، مستقبلهم مع النفوذ الروسي. انتهت الحرب لصالح اليابان، وصارت كوريا محمية تابعة لها.
في سياق وتفاصيل شبيهة بـ"الحكاية السورية"، قامت ثورة فلاحية في جنوب مملكة كوريا في أواخر القرن التاسع عشر، مناهضة لآخر أباطرة مملكة جوسون الكورية
حسب ذلك السياق، وحين قامت الثورة الشيوعية في روسيا بعد عقد من انتهاء الحرب، فإنها كانت جاهزة لجذب المحافظين الكوريين، الذين تطلعوا لإنهاء النفوذ الياباني بأي شكل، وإنهاء طبقات "الشعب الكوري" المندمج والمأخوذ بالتحديث الغربي/ الياباني. كان ذلك الأساس المنطقي الذي ما استطاع الكوريون جبره سياسيا أو تصفيته عسكريا عبر حروب ماحقة في أواسط القرن المنصرم.
وحسب ذلك صارت كوريا في قاعها الأعمق دولتين/شعبين، لكل واحد منهما هويته وسرديته ورؤيته لمعنى الوطنية وتفسير التاريخ ومعنى الأمة ومستقبل الدولة. لم تستطع الكلمات المنمقة والمصالحات الشخصية والمبادرات الثقافية والدعايات الترويجية كسر ذلك الانقسام الذي بدأ من لحظة تحول وتفارق، كانت صغيرة وعابرة في لحظتها التأسيسية، لكنها بسبب السياقات الإقليمية ونوعية الكيان الواقع على خط تقاطع مصالح الدول الكبرى وبحر الدماء التي أريقت وسياقات التطور التاريخي التي سار كل واحد منهما فيها، أصبحت البنية التي يقوم عليها شعبان لا شعب واحد.
في سوريا اليوم، ثمة الكثير من ذلك. فالنظام الذي يُريد أو يُراد له أن يسترجع خمسة عشر مليون سوري من خارج سلطته، خلقوا طوال عقد ونصف سياقات مختلفة تماما لحياتهم الخاصة والعامة، شكل الانفلات من قبضة أجهزة النظام ركيزة هذه الحياة. على الحكم في سوريا أن يستعيد أناسا منتفضين عليه مثل أهل السويداء، القريبين جدا، حتى إنه لو نادى من قصر المهاجرين، لسمع الصدى بين المنتفضين هناك. فالسوريون اليوم جاهزون ليكونوا شعبين، وربما شعوب كثيرة، لو أريد لمسألتهم أن تُصفى بُقبلات وصور إعلانية منمقة، فهذه الأخيرة تناسب مصالحات زعماء الحارات والقبائل، لا مستقبل ملايين البشر، قدموا بحرا من الدماء وأشكال الحياة، فقط في سبيل أن لا تكون الأمور مثلما يُراد ويُخطط لها أن تكون في صالونات وزراء الخارجية.