من العتبة إلى الزمالك... كيف يلهث المسرح خلف إيقاع القاهرة؟

عملان جديدان يتفاعلان مع المكان والجمهور

"The Opera of the Ataba" Fatima Shabaan
"The Opera of the Ataba" Fatima Shabaan
من "أوبرا العتبة"، تصوير: فاطمة شعبان

من العتبة إلى الزمالك... كيف يلهث المسرح خلف إيقاع القاهرة؟

من بين عروض مسرحية عديدة، تشهدها القاهرة في الآونة الأخيرة، وتلفت نظر الجمهور، الملتفت، في طبيعة الحال، أكثر إلى الأفلام والمسلسلات أو حتى إلى مباريات كرة القدم، يمكن التوقف أمام مسرحيتين بالذات عُرضتا بشكل متزامن، ولم يمثّل ثمن تذكرة الدخول عبئا إضافيا في لحظة اقتصادية صعبة، بل إن إحداهما رفعت شعار "الحضور مجاني". تعترف المسرحيتان بحضور المدينة، بثقلها، وأحيانا بوجوب الهرب منها، أو حتمية إعادة تشكيلها، ولو على المستوى الداخلي فحسب، أي على مستوى علاقة الشخوص النفسية بها، وبالتالي علاقتنا نحن كمتفرجين بهذه المدينة، القاهرة.

لماذا المدينة؟

هذا السؤال يطرحه المسرحي الإنكليزي تيم إتشيلز، كما يحاول الإجابة عنه، في تقديمه كتاب "المسرح والمدينة"، الصادر عن المركز القومي للترجمة، في القاهرة، بترجمة أريج إبراهيم، قائلا: "لأنها فضاء متنازَع عليه. لأنها، وفي الوقت ذاته، تُستخدم من قبل العديد من الناس والقطاعات والفصائل والجماعات، التي لا تتوافق مصالحها بأي شكل من الأشكال. ولأنها تتضمن مستويات من التجارة والصناعة والترفيه والمجال السياسي. ولأنها تتطلب التفاوض والتراضي والتعاون والصراع والاتفاق كي تؤدّي مهمتها، وتتقدّم الى الأمام".

وربما ببساطة لأننا نحيا فيها، هذه المدينة، هذه القاهرة. وربما لنا أن نحاول فهمها بالمسرح، صناعة ومشاهدة، وهذا المتحقق هنا في الحالتين. حالة مسرحية "أوبرا العتبة"، التي عُرضت على "مسرح الطليعة"، في وسط القاهرة، بالضبط في قلب حيّ العتبة المعروف بالتجارة، وضمّه أسواق الكتب المستعملة (سور الأزبكية)، والمعروف كذلك بالضجيج، وسهولة أن يتشوش الإنسان السائر فيه أو إليه، أو يضيع، إن لم يكن مدربا على هذا السير. في حي العتبة، ينبغي أيضا الاحتراز من سهولة السرقة، أو بسبب الزحام، من سهولة التعرّض للمسّ أو التحرش في حالة الإناث. لكنه أيضا الحيّ، الذي يمكننا فيه أن نُجري تجارب مهمة على صعيد التقاط الأصوات المتنافرة ودراستها، وهو أيضا الذي يمكن منه شراء البضائع الغالية بأسعار أرخص بكثير، وتلك هي ميزته وشهرته الأهم. في الواقع يستلهم مخرج وكاتب المسرحية هاني عفيفي، هذه الأجواء في عمله، بل يحاول أن يقاطعها ويترك عليها بصمته، السريعة الزوال، في طبيعة الحال. المسرحية من إنتاج رسمي للدولة، وتتبع البيت الفني للمسرح، الذي يتبع بدوره وزارة الثقافة.

يمكن للمؤلفين الموسيقيين الموهوبين أن يستخرجوا شيئا من نداءات الباعة بالميكروفونات وهمهمات الناس الجماعية وزعيقهم حتى

أما الحالة الثانية فهي لعرض "في يوم وليلة"، وهو كما قدَّمه صنّاعه، أو بالأحرى صانعاته من النساء: "عرض جسدي كوميدي"، ينهض أساسا على الرقص المعاصر. الإخراج وتصميم الرقصات لنرمين حبيب، المشارِكة أيضا في التمثيل والرقص إلى جانب ثلاث بطلات أخريات هن: نغم صلاح وميريت ميشيل وشيرين حجازي. عُرضت "في يوم وليلة" – العنوان بالطبع مأخوذ من أغنية وردة الجميلة  – على مسرح المركز الثقافي الإيطالي في حيّ الزمالك العتيق، في شارع يضمّ عدة سفارات، أي في مشهد يختلف جذريا عن صخب العتبة. وقفنا في صف، رتَّبه موظفو المركز الذي يبدو عتيقا لكن من نوع آخر، نمسح عرقنا بالمنديل، ونسجل ما وسعنا أسبقية حضورنا، كي لا تمتلئ القاعة قبل وصولنا ويفوتنا العرض المجاني. دفعنا في المقابل هذه اللهفة على مشاهدة، بعض ما شوَّقنا إليه ملصق المسرحية من حميمية أربع سيدات جالسات على الأريكة أو قربها قليلا على الأرض، تُغني إحداهن وتضحك أخرى وتشير ثالثة بمرح إلى شيء في السقف البعيد.

أوبرا في العتبة؟

على صفحة "مسرح الطليعة" على "فيسبوك"، تستهجن تعليقات بعض الرواد موقع المسرح وسط السوق. وتغالي تعليقات أخرى بضرورة تغيير معالم المنطقة، بما يتناسب مع حضور المسرح. ومع ذلك، فإن مَنْ شاهد "أوبرا العتبة"، يعرف أنه ليس هناك مكان أنسب من "مسرح الطليعة"، وأنه ربما لولا العتبة، بكل المشهد المحيط بها، لما تفرجنا أصلا على هذه المسرحية.

"The Opera of the Ataba" Fatima Shabaan
غناء أوبرالي في الهواء الطلق، من مسرحية "أوبرا العتبة"، تصوير: فاطمة شعبان

العنوان تصلح مقاربته بجدية، كما يصلح كسخرية. أولا، نعم يمكن للمؤلفين الموسيقيين الموهوبين أن يستخرجوا شيئا من نداءات الباعة بالميكروفونات، وهمهمات الناس الجماعية وزعيقهم حتى، إن هم أرادوا. أليست الأوبرا في أصلها نوعا فنيا ومنظَّما من الصراخ. من ناحية أخرى، يسهل أن نقرأ العنوان بوصفه سؤالا استنكاريا: هل يمكن أصلا أن تُقام أوبرا في سوق العتبة، وأي أوبرا تلك؟ بما أن الأوبرا تكرِّس نفسها في طبيعة الحال، للنخبة، لا للجمهور العادي، فما بالك بالمهمومين بشراء السلع بثمن بخس من سوق العتبة.

هنا بالضبط يبدأ هاني عفيفي مسرحيته. تُفتح بوابة "مسرح الطليعة"، ويقف مؤدّ ومؤدّية عند الباب، في ثياب رسمية، يؤديان أغنية أوبرالية. يُدعى الجمهور إلى حضور هذه الفقرة في الهواء الطلق، وإن كانت تُدهِش مرتادي المسرحية، فهي بلا شك تصدم المارة مصادفة أمام بوابة المسرح، في هذه اللحظة بالذات. ما الجنون الذي يفعله هؤلاء الناس؟ وهل ما زلنا في سوق العتبة فعلا، أم ضللنا الطريق إلى أوبرا القاهرة؟

رقصات تروي بها النساء لحظات حميمة من حيواتهن، عن الألم والغضب والغواية والدلال

هذه إحدى أقوى لحظات العرض. على الرغم من أنها لا تتصل جوهريا بما سنراه في الداخل، على خشبة المسرح. كأنها مزحة مع المدينة وأهلها، محاولة للفت أنظارهم إلى شيء خارج الأكياس والأموال.

بعد ذلك نتبع إرشادات المنظمين، دالفين إلى القاعة المكيَّفة والمظلمة. نتبيّن أمامنا خشبة، تتشظى إلى آلاف الأركان والزاويا. ثمة صناديق كرتون بلا عدد في عمق المسرح. على اليمين، ثمة صومعة يقرأ فيها من كتاب المثقف (يؤدّيه محمد عبد الفتاح)، وبين آن وآخر ينهض ويولينا ظهره غارقا في حالته الصوفية الخاصة مستكملا لوحته. على اليسار إطار آخر، لغرفة تجلس فيها سيدة منزل (تؤدّيها دعاء حمزة)، قلقة، تبدّل جلساتها باستمرار، تمسك الهاتف، تجري مكالمات، تنهض وتعدل مواقع الصناديق. ومع ذلك، فلا صومعة المثقف ولا غرفة ربة المنزل يمكن رؤيتهما كمركز، بل هما في الهامش. وسيتضح ذلك حين سيبدأ العرض بطوفان من البائعين الجوالين يتحركون من خشبة المسرح ويتخللون صفوف المتفرجين، يعرضون علينا أشياء للبيع وينسحبون. يشوشوننا، يصيحون أو يغنون على الطريقة الشعبية. وفي أقصى اليمين، بين آن وآخر، ثمة شاشة تدلي بدلوها من التشويش، حين تستعرض مقاطع سريعة ومتغيرة لـ "تيك توك"، تؤدّي دور مُقاطِع لتأملات المثقف.

لا جديد يقدمه المثقف الهادئ أكثر من محاولته استكمال قراءة كتابه بصوت المرتفع، في محاولة يائسة لتنوير الجماهير. ثمة هاتف، يرن بإلحاح يخترق هذا الإجلال، ونظنه هاتف أحد المتفرجين، غير أن المشادة الكلامية بين اثنين من الممثلين، تنبهنا إلى حقيقة المقلب. ثمة إسكتشات عديدة، يؤدّي فيها ممثل آخر دور مواطن عادي يتصل طالبا خدمة هاتفية، لا تستطيع الموظفة تقديمها له: معليش أصل السيستم واقع! وتبدو العبارة المضحكة تلخيصا لمشهد المدينة، التي كأنها تسير بالقصور الذاتي، رغم "وقوع السيستم".

"The Opera of the Ataba" Fatima Shabaan
من "أوبرا العتبة"، تصوير: فاطمة شعبان

تتواصل الإسكتشات المتفرقة، فتتناول مواضيع مثل غلاء الأسعار العشوائي، وتصرفات الأفراد بأنانية في المدينة، التي يُفترض أنها ساحة تعاون. وسط هذا القلق تضفي دعاء حمزة خفة دم وحيوية على دور ربة المنزل الهلعة التي تتابع الأخبار في التلفزيون وتُخزن السلع في غرفتها، كأنما تستعد لنهاية العالم، زوجها يعمل في إحدى دول الخليج العربي، ويبدو ألا اتصال روحيا حقيقيا بين أحد من أفراد أسرتها يرحمها من هواجسها. وقد يكون هذا الخط، هو الخط السردي الوحيد الذي يتطوّر على طول المسرحية، التي تنهض أساسا على الإسكتشات. ثمة حضور قوي أيضا لثيمة التحرش، التي يتعرض لها أكثر من إسكتش. في المترو، تتعرض فتاة محجبة للتحرش ولا تفهم السبب رغم التحفظ البادي على ثيابها، في سوق العمل تتعرض بائعة مجبرة على العمل وسط الرجال، أيضا للتحرش، كأنه ثمن المرور في المدينة، في هذا الجزء منها. والآن بالضبط، يمكننا الانتقال إلى المسرحية الثانية.

أغنيات النساء وحكاياتهن

الشعور الذي نخرج به من "أوبرا العتبة"، العرض الذي اختير للمشاركة رسميا في الدورة الحالي من مهرجان المسرح القومي، هو الصداع والدوخة، وكأننا به ندرك أن المدينة تنتظر نهاية العالم كما انتظرتها ربة المنزل دعاء حمزة في غرفتها المعزولة عن الحياة. أو كأننا بالضبط في يوم ما قبل نهاية العالم، فلا يمكن لـ "السيستم" أن يبقى "واقعا" طوال الوقت بلا تبعات.

أما "في يوم وليلة"، فيبدأ من شعور ما بعد النهاية، كأننا في اليوم الأول لبداية العالم الجديد. محض فراغ، وهدوء. المسرح متقشف، بإضاءة دافئة، أريكة فقط في أقصى اليسار، ميكروفون في أقصى اليمين، سرعان ما ستتخلص منه الممثلات، ليتركننا نستنج أحيانا ما الذي يقلنه على المسرح.

 المشترك بين المسرحيتين هو التشظي وغياب الخط السردي وطغيان الضياع النفسي في مدينة تتغيَّر بسرعة

بدورها تبدأ "في يوم وليلة" بمقلب. فجأة تنقطع الأنوار، وتُصدِر إحدى الممثلات صوتا استنكاريا مضحكا وهي تقول: "النور قطع". من مقاعدنا، نحاول أن نبحث عن نور، في نهاية "الخشبة"، أو ننتظر تدخلا من مضيفي العرض، بتوليد الكهرباء بطريقة أخرى. إلا أن هذا المشهد الافتتاحي، هو أيضا جرّ للمتفرج من أذنه، وهمومه وخيباته إذا جاز التعبير. في وقت تعاني فيه القاهرة لساعات طويلة من الظلام، لتخفيف الأحمال.

هنا أيضا ليس ثمة سرد بالمعنى المعروف. بل حكايات وأنس. رقصات تروي بها النساء لحظات حميمة من حيواتهن، عن الألم والغضب والغواية والدلال. رقصات يحرّرن فيها أنفسهن بأنفسهن. يحررن أجسادهن، كأن هذا التحرير هو فعل شخصي في الأساس، تقدر عليه أكثر في طبيعة الحال المرأة المتعلمة التي في وسعها الاطلاع على التراث النسوي في لغات أخرى. ولا أنسب من حيّ الزمالك، بتركيبته المطلة على النيل، وضمّه المكتبات والمتاحف، ولعبه دورا ما كوزموبوليتانيا، وضمه سفارات دول عديدة بمحيطها الأمني، كل ذلك يجعله مساحة للتحرك والسهر بحرية وأمان نسبي للنساء في القاهرة. ليس هناك حديث عن التحرش، وكأنه انتهى مع النهاية السابقة للعالم. لا خوف منه أيضا، بما أن الممثلات على المسرح يجلسن بحرية، في ثيابهن الخفيفة، غير عابئات بنا ولا بنظراتنا.

"The Opera of the Ataba" Fatima Shabaan
دعاء حمزة في مسرحية أوبرا العتبة. تصوير: فاطمة شعبان

بالرقص الذي هو أحد أفعال البوح الأكثر طلاقة والحرية الأكثر صراحة، يجري زمن المسرحية سريعا، على العكس من الأبدية التي اختبرناها في "أوبرا العتبة". ومع ذلك ثمة مكان للأحاديث الساخرة حول الحياة والوزن المثالي للجسد الأنثوي حول "الجيل زد" الذي يرمز إلى "زبالة" كما تعلِّق شيرين حجازي، رافضة أفعال الجيل وتصرفاته جملة. تمتد السخرية، حتى إلى الجمهور حين تتقدم ميريت إلى الميكروفون بعد أدائها رقصة قصيرة بلا موسيقى، نظل لها مشدوهين، تقول: "شكلكم ملكوش في المعاصر!"، تعليقا على هيبتنا من التفاعل مع عرض من الرقص المعاصر، أو حتى ارتباكنا.

ومع أن ميريت، التي تقدّم نفسها بصفتها سيدة أربعينية لا مبالية، تشرح لنا بخفة ظل، معاني حركاتها وإيماءاتها في الرقصة التي أدتها منذ قليل، فإن الانطباع العام الذي يصلنا من خشبة المسرح ونزيلاته، هو أن اللامبالاة تكسب. اللامبالاة سلاح ضد العالم الغاشم وضد توقعات المجتمع، وهي فضيلة سن أواخر الثلاثين والأربعين، إذ تخرج المرأة تلقائيا من دائرة الحصار المفروضة عليها، من أجل الزواج.

يتمسكن أحيانا بالوزن المثالي، لكن مع سخرية عارِفة من الذات، كما تقول شيرين حجازي: "أنا كرامتي وقعت مع الكالوريهات!". ثمة فوضى على المسرح، فوضى في الرقصات والتعليقات التي لا نسمع بعضها، وفي غياب خط سردي للنص الذي يبدو مرتجلا، لكنها فوضى منظمة برهافة أنثوية، كما نحسّ. تشكل البطلات ما يشبه الحلقة الروحية، ويستعدن الذكريات، على  شريط صوتي من أغنيات الحب والإعلانات وتترات المسلسلات التي سادت في التسعينات والألفية. في حنين؟ ربما... لكن الأكثر في محاولة لتسجيل الزمن، تسجيل الحضور الشخصي، ضد لحظة تمحوه تكنولوجيا باستمرار. ويُلهِم هذا العرض الممتع بأفكار عن الصداقة والأخوية، وبنوع خافت ولا مبال من النسوية التي نحتتها ظروف مغايرة، في بيئات خاصة.

ثمة مسافة زمنية ومكانية وفلسفية بين مسرحيتي "أوبرا العتبة"، و"في يوم وليلة"، على الرغم من أنهما عُرضتا بشكل متزامن، وفي حدود مدينة واحدة. المشترك بينهما هو التشظي وغياب الخط السردي وطغيان الضياع النفسي في مدينة تتغيَّر بسرعة، لكنها لا تستطيع مع ذلك أن تتخلص من تناقضاتها المزمنة.     

font change

مقالات ذات صلة