إذا نظرنا إلى أرشيف "المجلة" للشهور الثلاثة الماضية فقط، ستطالعنا حزمة من القضايا الموزعة على خريطة العالم من أقصاه إلى أقصاه. من عودة الحكومات العسكرية في منطقة الساحل الأفريقي إلى تقدم الذكاء الاصطناعي والعملات الرقمية. ومن تمدد قوى اليمين المتطرف في أوروبا إلى الاستقطاب الحاد في الولايات المتحدة الذي ينعكس في الحملة الانتخابية الجارية حاليا.
وإذا أضفنا حروبا قابلة للاستمرار لسنوات عدة مقبلة مثل أوكرانيا وأخرى على وشك الاندلاع كتلك التي يقال إنها باتت قريبة بين الصين وتايوان، سنجد أننا أمام عالم عاصف بالأحداث لكنه فقير إلى الأفكار الرامية إلى تتبع الأثر العميق الذي تخلفه الأحداث في الاجتماع الإنساني والذي سيشكل العوامل المقررة للمستقبل على هذا الكوكب.
ليس معتادا ما يجري، خلافا لما يقوله العقل المتكاسل عن إبداء الدهشة بل الذعر حيال نذر الكوارث المقبلة والرافض لخوض مغامرات الشك في ما بدا كمسلمات وبديهيات في العقود الماضية. ليس أمرا بسيطا أن تجتاح الدبابات الأوكرانية إقليم كورسك الروسي الذي شهد معركة الدبابات الأكبر في التاريخ بين القوات السوفياتية وقوات ألمانيا النازية وحيث تكرست نتائج الهزيمة الألمانية التي مني بها هتلر في ستالينغراد، قبل شهور من معركة كورسك.
بعد أسابيع من دخول قوات أجنبية أراضي قوة نووية كبرى وكانت إحدى القوتين العظميين أثناء الحرب الباردة، لا زال الجيش الروسي يتخبط في كيفية سد هذه الثغرة بعدما بدا طوال عام، منذ فشل الهجوم الأوكراني قبل صيف، أنه بات قادرا على استعادة المبادرة والتشبث بالمناطق الأوكرانية التي يحتلها. يطرح هذا الواقع، حتى لو تغير بعد أيام قليلة وانسحب الأوكرانيون إلى خطوطهم السابقة، أسئلة عميقة عن حدود الإمكانات التي تتمتع بها الدول الكبرى وعن وزن السلاح النووي الروسي في مواجهة تهديد إقليمي تقليدي. ناهيك عن أسئلة عن السيادة على الأرض الروسية وإمكان إسقاطها كرد على انتهاك السيادة الأوكرانية.
وعلى بعد آلاف الكيلومترات، تقترب الحرب في غزة من نهايتها. المعركة التي بدأت كاستعراض للإخفاقات العسكرية والأمنية الإسرائيلية ولمستويات النرجسية غير المعقولة في صفوف الطبقة السياسية الإسرائيلية، وصلت إلى حالة "قيامية" (نسبة إلى يوم القيامة) من الرعب الذي تركز في صفوف الفلسطينيين. ذاك أن أسوأ مخاوفهم تحققت. العالم وقف يتفرج عليهم يذبحون، مؤيدا الرد الانتقامي الإسرائيلي المفرط في دمويته وعنفه. والنداءات اليائسة إلى "العرب والمسلمين" لم تأت باستجابة تتجاوز المساعدات الإنسانية التي يتحكم الإسرائيليون في وتيرة تدفقها.
المعركة التي بدأت كاستعراض للإخفاقات العسكرية والأمنية الإسرائيلية ولمستويات النرجسية غير المعقولة في صفوف الطبقة السياسية الإسرائيلية، وصلت إلى حالة "قيامية" (نسبة إلى يوم القيامة) من الرعب الذي تركز في صفوف الفلسطينيين
الإعلام العربي يقول إن الإسرائيليين لم يحققوا شيئا في غزة، وإن الفصائل الفلسطينية تخوض معارك ضارية ضد القوات الإسرائيلية المتوغلة، وإن الأهداف الإسرائيلية التي أعلنتها حكومة نتنياهو في اليوم الأول من الحرب فشلت. في المقابل، يظهر بوضوح أن القضية الفلسطينية تراجعت عقودا إلى الوراء، فيما انكشف هزال المضمون الذي بنت عليه "حماس" وشبيهاتها مقاومتهم المسلحة. كما أن ركاكة التحالفات التي نسجتها مع قوى ودول مثل "حزب الله" وإيران تبين أن ضوضاءها أكبر من فعلها. وبين أكثرية الإعلام العربي والحقائق القاسية في غزة، تقيم الخيبة التي سترافق الفلسطينيين طويلا.
الشهور المقبلة ستحفل بالآثار السلبية لما تسبب فيه الانقسام الفلسطيني والأوهام التي ساهمت في إطلاق هجوم "طوفان الأقصى". لكنها ستحفل أيضا بالعلامات على اندراج ما جرى في غزة في سياق أكبر وأعمق من مجرد كارثة سياسية وإنسانية جديدة نزلت بالشعب الفلسطيني.
يتحد الحدثان المذكوران، في كورسك وغزة، لرسم مشهد ستكون الانتخابات الأميركية واحدة من خلاصاته ومن المؤشرات إلى الوجهة التي يسير العالم فيها. ما من أهمية تُعلق على تقدم نموذج الحكم الفردي التسلطي الذي يتصاعد عدد مؤيديه في العالم ويصل إلى صلب الانتخابات الأميركية، على حكم الأكثرية المستنيرة والآخذة في الاعتبار مخاوف الأقلية. أو العكس. فالمسألة لم تعد في أي النموذجين أقل ضررا على البشرية، كما يتبارى الكتاب في سجالاتهم. بل إنها في الحيلولة دون أن تقضي المبارزة هذه على فرص بقاء الإنسان ذاته.