الأسد يحول التصعيد الإقليمي إلى مكاسب شخصية له

يستفيد من استراتيجية فك الارتباط مع إيران في تعزيز علاقاته مع الدول العربية

 رويترز
رويترز
الرئيس السوري بشار الأسد أثناء مشاركته في قمة منظمة التعاون الاسلامي في الرياض في 11 نوفمبر

الأسد يحول التصعيد الإقليمي إلى مكاسب شخصية له

غالبا ما يثبت القول المأثور "ما من منتصر في الحرب"، صحته، إلا أن بعض الجهات الفاعلة لا تزال قادرة على تحويل الأوضاع الكارثية لصالحها. ومن الجلي أن هذا هو حال الحكومة السورية التي أدارت بمهارة التصعيد الإقليمي الذي أثاره الصراع في غزة من أجل تأمين مكاسب سياسية لنفسها، وعززت علاقاتها الدبلوماسية الإقليمية مع الدول العربية بامتناعها عن الانخراط في العمليات العسكرية التي يقوم بها "محور المقاومة" ضد إسرائيل.

ولا يرجع سبب هذا التحول إلى انسجام دمشق مع موقف تلك الدول المؤيد لخفض التصعيد فحسب، بل أيضا لأن النظام اتخذ مسارا يختلف عن نهج إيران. وعلى المنوال نفسه، يستغل النظام الآن التصعيد الأخير بين إسرائيل و"حزب الله" الذي أعقب اغتيال القائد العسكري الأعلى لـ"حزب الله" فؤاد شكر، لتعزيز مكانته الدولية. وهو يستخدم المخاوف المتزايدة من صراع محتمل واسع النطاق لتعزيز العلاقات مع البعثات الدبلوماسية الأجنبية التي تستعد للإجلاء من لبنان.

نهج فك الارتباط

لطالما اعتبرت دمشق نفسها الركيزة الأساسية لمحور المقاومة. إلا أن النظام السوري سعى على نحو فاعل أن لا ينخرط في نشاط هذا المحور، على الرغم من الزيادة الكبيرة في الهجمات الإسرائيلية التي استهدفت مجموعات المحور في جميع أنحاء المنطقة منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي. وبينما أبقى النظام على دعمه الخطابي للمحور، نجده قد امتنع عن الانخراط في الهجمات الإقليمية المتصاعدة، حتى عندما استخدمت إسرائيل سوريا كساحة معركة بالوكالة لاستهداف مجموعات المحور.

يتناقض نهج الأسد هذا تناقضا حادا مع استراتيجية "وحدة الساحات" التي يتبناها محور المقاومة، ويحكمها مبدأ "الكل للواحد والواحد للكل"، فتحشد المجموعات الأعضاء الدعم لبعضها بعضا إذا واجه أي منها تهديدا وجوديا. وتتجلى المفارقة إلى حد أكبر في استفادة الأسد القصوى من حلفائه في محور المقاومة أثناء الانتفاضة ضد نظامه، حيث انخرط الكثير من الأطراف الفاعلة المحورية من لبنان والعراق وإيران في القتال في صفه لضمان بقائه، ثم في رفضه أن يدعمهم كما دعموه، عندما انقلبت الأدوار. ويواصل الأسد فك ارتباطه ليس فقط في موقفه من الهجمات على "حماس"، بل أيضا في الفترات التي واجه فيها كل من "حزب الله" وإيران اعتداءات مباشرة.

عصفوران بحجر واحد

تساهم عدة عوامل في تبني الأسد لموقفه بعدم التدخل. فعلى الصعيد الداخلي، لا تزال سوريا ممزقة بفعل حرب أهلية دامت أكثر من عقد من الزمان، أدت إلى إضعاف القدرة العسكرية للنظام إلى حد كبير. كما أن اقتصاد البلاد في حالة خراب وغير معد لتحمل تكاليف المزيد من التصعيد. بالإضافة إلى ذلك، يشعر الأسد بالقلق من رد انتقامي محتمل تنفذه إسرائيل، بعد أن أوضحت أن أي مشاركة عسكرية ستكون لها عواقب كارثية. كما أن سخط النظام المستمر على "حماس"، بسبب قرارها دعم الانتفاضة ضد الأسد والوقوف إلى جانبها، أدى دورا في إحجامه عن أن يهب للدفاع عن الحركة.

على الصعيد الداخلي، لا تزال سوريا ممزقة بفعل حرب أهلية دامت أكثر من عقد من الزمان، أدت إلى إضعاف القدرة العسكرية للنظام إلى حد كبير

ومن الناحية السياسية، يستفيد نظام الأسد من استراتيجية فك الارتباط هذه في تعزيز علاقاته الآخذة في التحسن مع الدول العربية. فمنذ اندلاع الحرب في غزة، تبنت هذه البلدان نهج خفض التصعيد، كي تمنع حدوث صراع إقليمي يفضي إلى مزيد من زعزعة الاستقرار. كما سعت الدول العربية منذ فترة طويلة إلى إبعاد سوريا عن مجال النفوذ الإيراني، ودفع دمشق لتكون سياستها الخارجية منسجمة على نحو أوثق مع سياسة هذه الدول لا مع سياسة طهران. وإدراكا من النظام لهذه المواقف العامة، صاغ موقفه الخاص بفك الارتباط، ولو أن دوافع البقاء هي التي تحركه، كموقف ينسجم مع موقف الدول العربية.
وجدير بالملاحظة أن هذا المسعى الذي اتخذه الرئيس السوري يحمل أهمية إضافية لأنه يبتعد عن استراتيجية إيران الانتقامية التي تهدف إلى منع إسرائيل من تدمير "حماس". وليست فوائد هذا النهج المدروس الذي يتبعه النظام جلية فقط في تزايد تفاعلاته الدبلوماسية مع الدول العربية، بعد إعادته إلى جامعة الدول العربية، بل أيضا في الحضور الدبلوماسي العربي في دمشق الذي يتعزز منذ بداية هذا العام.

تعزيز مكانة النظام الدولية

كما وفر الصراع في غزة فوائد للنظام السوري في علاقاته العربية، يوفر له الخوف المتزايد من اندلاع حرب شاملة بين إسرائيل و"حزب الله" في لبنان، الفرصة لتعزيز علاقاته الدولية. فمنذ 8 أكتوبر/تشرين الأول، باتت الهجمات المتبادلة بين إسرائيل و"حزب الله" حدثا شبه يومي، غير أن خطر حدوث مواجهة واسعة النطاق تصاعد في الآونة الأخيرة. فقد تصاعدت التوترات بعد أن اغتالت إسرائيل في جنوب لبنان أعلى قائد عسكري في "حزب الله"، فؤاد شكر، عقب مقتل رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" إسماعيل هنية في طهران. فأدت التوقعات بأن ترد إيران و"حزب الله" ردا انتقاميا قويا، إلى جانب نية إسرائيل بالرد عليه، إلى إثارة المخاوف من أن الوضع قد يفلت عن السيطرة سريعا.

 أ ف ب
دمار في مبنى أصابته غارة إسرائيلية في بلدة الكفور في جنوب لبنان في 17 أغسطس

ونتيجة هذا الوضع تكثفت الاتصالات بين البعثات الدولية وسفارة النظام السوري في بيروت، لتنسيق عمليات الإجلاء المحتملة. وزيادة الاتصالات هذه، التي تجيء بعد فترة طويلة من الصمت، لم تأت فقط من الدول الصديقة تقليديا، مثل بعض دول أميركا اللاتينية، إنما أتت أيضا من سفارات غربية في لبنان، بما فيها سفارات النرويج وسويسرا وإيطاليا. وبحسب ما ورد، اتخذت بعثات الأمم المتحدة في لبنان خطوات مماثلة وهي تخطط لعمليات إجلاء محتملة في حال اندلاع الحرب. كما أفادت مصادر مطلعة أن سفارة سوريا وبناء على توجيهات من دمشق أبدت استعدادها للتعاون. ومع ذلك، ليس واضحا بَعد ما الذي طالب به الأسد في مقابل ذلك، وهو المعروف بالحساب والمهارة في الاستفادة من مواقف كهذه لتعزيز مصالحه.

الفوز في كلتا الحالتين

ولا تُعتبر سوريا في العادة وجهة مثلى لإجلاء الناس عند الحاجة، بسبب الصراع المستمر والوضع الأمني الهش في المناطق التي يسيطر عليها النظام. ومع ذلك، في حالة اندلاع حرب شاملة بين إسرائيل و"حزب الله"، قد تصبح دمشق مسارا ممكنا للهروب من لبنان، خاصة إذا كان يجب تنفيذ عمليات الإجلاء بسرعة وسط الطلب الكبير على النقل الجوي والبحري داخل لبنان. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تكون دمشق خيارا احتياطيا إذا استهدفت إسرائيل مطار بيروت الدولي أو الموانئ، وهو سيناريو لا يمكن تجاهله، لا سيما وأن المطار تم إغلاقه لمدة شهر خلال حرب إسرائيل مع "حزب الله" في عام 2006. وفي ظل هذه الظروف، ستصبح عمليات الإجلاء عبر مطار دمشق أو عبر مطار عمان عبر سوريا ضرورة.
وفي حال حدوث ذلك، فسيكون من المهم أن ندرك أن النظام السوري سيستفيد سواء جرت عمليات الإجلاء هذه أم لم تجرِ. فما إن يوافق النظام على التعاون، حتى يستطيع أن يدعي أنه يتمتع بأسس أخلاقية سامية لمساعدة الآخرين حتى أولئك الذين ظلموه في الماضي. علاوة على ذلك، سيزيد هذا التعاون تلقائيا من اتصالاته مع البعثات التي لم يكن لديها في السابق سبب للتعامل مع سفارته. كما قد تحتاج بعض البعثات الدبلوماسية أيضا إلى اتخاذ ترتيبات في داخل سوريا، ما قد يؤدي إلى مزيد من الزيارات إلى دمشق.
وفوق ذلك، ثمة مخاوف من أن يستغل النظام عمليات الإجلاء المحتملة، كي يضغط على هذه البعثات الدبلوماسية لإعادة تأسيس وجودها في سوريا أو توسيع نطاق عملياتها تحت ستار الضرورات اللوجستية لمثل هذه الاستعدادات. وحتى لو انتهى التصعيد الحالي في لبنان سلميا، فسوف تختار بعثات كثيرة إبقاء قنواتها مفتوحة مع النظام على الأرجح، تحسبا لاحتمال ظهور سيناريوهات مماثلة في المستقبل.

النظام السوري سيستفيد سواء جرت عمليات الإجلاء أم لم تجرِ. فما إن يوافق على التعاون، حتى يستطيع أن يدعي أنه يتمتع بأسس أخلاقية سامية لمساعدة الآخرين

ومع ذلك، لا تنبغي المبالغة في تقدير ما حققه النظام من مكاسب من وراء الحرب على غزة ومن آثارها البعيدة المدى. فمع أن تعزيز مكانته الإقليمية والدولية قد توفر له بعض المزايا السياسية، فلن تخفف هذه المكاسب من التحديات الاقتصادية الملحة التي تواجه الأسد اليوم، وتهدد بقاء نظامه على المدى الطويل. علاوة على ذلك، من المهم أن نراقب التداعيات المحتملة لمناورات الأسد عن كثب، إذ ليس من المرجح أن يحافظ على قدرته على اللعب على جميع الأطراف، ولا سيما إذا استمرت التوترات في التصاعد.

font change

مقالات ذات صلة