غزة ولبنان... متى تخرج السياسة من الأنفاق؟https://www.majalla.com/node/321935/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%BA%D8%B2%D8%A9-%D9%88%D9%84%D8%A8%D9%86%D8%A7%D9%86-%D9%85%D8%AA%D9%89-%D8%AA%D8%AE%D8%B1%D8%AC-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%86%D9%81%D8%A7%D9%82%D8%9F
إذا سئل أي مواطن أو شخص في المنطقة عما إذا كان فعلا يريد توقف الحرب في قطاع غزة و"جبهات الإسناد" فإن جوابه سيكون حتما: نعم. لكن هذه التمنيات لا تلقى ترجماتها الفعلية على أرض الواقع. إذ إن قرار الحرب كما قرار التسوية والسلم هو في أمكنة أخرى وعند أشخاص ودول لا تؤثر فيها رغبات شعوب المنطقة المنكوبة والتي تتحمل نتائج الحرب من دون أن يكون لها أي تأثير في مساراتها. وهذا أمر لا يمكن القفز فوقه عند التأمل في أحوال الحرب وتداعياتها والتي للمفاوقة تمثل انكشافا حقيقيا لواقع دول المنطقة وأحوال شعوبها خصوصا تلك الدول التي تعيش على تماس مباشر مع الحرب، وخصوصا لبنان وسوريا وأبعد منهما العراق واليمن، إذا ما أخذنا في الاعتبار "الوضع الخاص" لكل من الأردن ومصر خلال هذه الحرب، إذ إنهما وإن كانا يعيشان على وقع الحرب ويتحملان تبعات ومخاطر جراءها إلا أنهما لا يشاركان فيها مباشرة، لكن هذا لا يعني أن الأردنيين والمصريين لا يريدون هم أيضا توقف الحرب.
في المقابل، فإن الاندفاعة الإسرائيلية للحرب لم تتأثر كثيرا بمجرياتها، فمع دخول الحرب شهرها الحادي عشر لم يصبح رافضو استمرارها أكثرية في إسرائيل، وهذا ما يجعل بنيامين نتنياهو يذهب بعيدا في مناوراته ومحاولاته لإجهاض التسوية أو تأجيلها أكثر فأكثر. لكن الفارق أن السياسة في إسرائيل ورغم كل الاتهامات لنتنياهو واليمين المتطرف بمحاولة تقويضها ومنذ ما قبل الحرب، إلا أن القرار في إسرائيل ليس في يد رجل واحد، أي نتنياهو، أو أن الدفاعات الداخلية ضد محاولته التفرد بالقرار لم تسقط وهي تستمر في الضغط عليه، وذلك بخلاف ما يحصل في غزة أو لبنان المعنيين مباشرة بهذه الحرب، حيث إن القرار محصور بأيدي أشخاص محددين، وحيث إن السياسة أصبحت تتركز في الأنفاق لا في المؤسسات.
المقارنات التاريخية لا تستقيم تماما الآن في ظل التحولات الكبيرة التي شهدتها المنطقة والعالم والتي انعكست حكما على الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وعلى كل من الفلسطينيين والإسرائيليين
ولم يسبق أن كان متخذو القرارات المصيرية في هذه البقعة من المنطقة العربية غير مرئيين إلى هذه الدرجة، حتى إن ياسر عرفات الذي كان مطاردا من الطائرات الإسرائيلية في بيروت خلال اجتياح 1982 كان إلى حد بعيد مرئيا ينتقل من مبنى إلى آخر فوق الأرض، وهذه المرئية لا تنحصر في حضوره الجسدي بل في حضوره السياسي أيضا. إذ إن عرفات كان يتحرك سياسيا في سياق فلسطيني ولبناني مختلف من سماته أن المسارب بين القيادة والقاعدة الشعبية كانت مفتوحة أكثر وأوضح، إذ كانت هناك "شرعية ضمنية" لعرفات متأتية من طبيعة الحالة الفلسطينية آنذاك. والأهم أن عرفات كان في بيروت في وضع دفاعي ولم يبادر إلى الهجوم وهذا فارق أساسي في المساءلة التاريخية له مقارنة بمساءلة "حماس" الآن، إذ إن مبادرتها إلى الهجوم في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي وقبل أن تتحول إلى الدفاع، تطرح عليها أسئلة رئيسة ومفتوحة متصلة باختيارها توقيت الهجوم ودوافعه وتقديرها لموازين القوى على الساحة الإقليمية والدولية.
صحيح أن المقارنات التاريخية لا تستقيم تماما الآن في ظل التحولات الكبيرة التي شهدتها المنطقة والعالم والتي انعكست حكما على الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وعلى كل من الفلسطينيين والإسرائيليين، لكن في مجمل الأحوال فإن الواقع الحالي فلسطينيا، وعربيا ولاسيما في ما يخص "دول الطوق"، هو واقع تتحكم فيه مشكلات بنيوية وعميقة وأهمها تحول القرار الفعلي إلى داخل الأنفاق في سياقات إقليمية معقدة تجعل الفلسطينيين واللبنانيين على وجه التحديد أسرى معادلات سياسية واستراتيجية تتجاوز حيزهم الخاص، أي تتجاوز المسألة اللبنانية، وتتجاوز كفاح الشعب الفلسطيني ضد إسرائيل، في واقع تحول الصراع مع إسرائيل إلى حلقة من حلقات الصراع الإقليمي الأوسع.
هذا ما ينطبق على الحرب الحالية، إذ لا يمكن النظر إليها وحسب على أنها محطة مفصلية في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بل يجب مقاربتها بالدرجة الأولى بوصفها آخر محطات صراع النفوذ في المنطقة وأكثرها عنفا ودموية. أو بعبارات أخرى فإن حرب النفوذ التي كانت دائرة طيلة السنوات الماضية في المنطقة- وقد وجدت ترجمات دموية في أكثر من بلد خصوصا في سوريا- تدور رحاها الآن على أرض غزة. وهو ما يفرض سؤالا رئيسا على "حماس" حول حدود الفصل بين مقتضيات الصراع مع إسرائيل وشروطه وإمكاناته وبين تحول هذا الصراع إلى جزء من صراع إقليمي أوسع على النفوذ والسيطرة يدفع ثمنه الفلسطينيون بالدرجة الأولى.
ما سبق لا يعني أن إسرائيل لا تتحمل المسؤولية الرئيسة عمّا جرى ويجري للفلسطينيين بسبب اختيارها منطق القوة والعنف على منطق التسوية والسلام، وهذا لا علاقة له بما يريده الفلسطينيون سواء اختاروا طريق التسوية أو "المقاومة"، إذ يجب النظر إلى الاستراتيجية الإسرائيلية على أنها قائمة بذاتها بمعزل عن أي خيار فلسطيني، ما دامت إسرائيل تقيم حساباتها على قاعدة أنها الدولة الأقوى في المنطقة وأنها تحظى بدعم من الدولة الأقوى في العالم.
وصورة إسرائيل هذه عن نفسها والمعجونة بشعور التفوق لم تسقطها الحرب الحالية وإن زعزعتها قليلا، لكن فهم إسرائيل لا يزال يقتضي النظر إليها بعد الحرب على أنها كما كانت قبلها دولة غير مردوعة في استخدام القوة لتحقيق ما تسميه "مصالحها الأمنية". وفي مطلق الأحوال لا جواب واضحا بعد عما إذا كان سيكون هناك فارق نوعي بين إسرائيل ما قبل الحرب وإسرائيل ما بعدها، وهذا سؤال يدخل في دائرة تقييم هجوم "طوفان الأقصى" بنتائجه على المدى البعيد لكن من دون القفز فوق نتائجه الفورية الكارثية بسقوط عشرات الآلاف من المدنيين ضحايا القصف الإسرائيلي، وهذا فضلا عن معاناة النزوح والتهجير من نقص الغذاء والدواء والمخاطر المتزايدة لتفشي الأوبئة.
كيفية خوض الصراع وكيفية حماية الفلسطينيين وتأمين حقوقهم يفترض أن تكون جزءا من سياسة فلسطينية عامة، لا أن تكون "حماس" وحدها من يقرر الأنسب للفلسطينيين
لكن أن تكون إسرائيل المسؤولة الأولى عن كل ما حصل منذ السابع من أكتوبر الماضي لا يجعل "المقاومة" معصومة. أي إن "مقاومة" إسرائيل وخوض صراع ضدها لا يجعلان "المقاومة" معصومة فوق المساءلة وفوق النقد، وهذا ينطبق الآن على "حماس" بالدرجة الأولى لكن أيضا على "حزب الله" في لبنان والذي هو أحد الوجوه الرئيسة للصراع الإقليمي في المنطقة وأكثر من "حماس" بما لا يقاس، إذ إن "حماس" وأيا تكن ارتباطاتها الإقليمية وتأثيرات السياسات الإقليمية في قراراتها فإن طبيعة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وعدوانية إسرائيل التاريخية تجاه الفلسطينيين تخلقان هامشا فلسطينيا لـ"حماس" لا يمكن لـ"حزب الله" أو أي فصيل من "فصائل المقاومة" ادعاؤه، لا بل إن خطابهم الفلسطيني ينقلب إلى عكسه أي إلى جعل المسألة الفلسطينية جزءا من صراع النفوذ الإقليمي. وهذا أيضا تساءل فيه "حماس" في تقديرها لسياسات حلفائها وأهدافهم عند أخذها القرار بهجوم السابع من أكتوبر. فحتى مقربون من "محور المقاومة" يقولون إن "إيران هدفها الحفاظ على نظامها وليس تحرير فلسطين". ولعل أحسن التأويلات لهذه المعادلة هي أن طهران وفي لحظة شعورها بالخطر الفعلي على مصالحها فهي مستعدة لتعديل "سياستها الفلسطينية" بمعزل عن أي أولويات فلسطينية، وهو ما شهدناه مرارا منذ بدء الحرب.
والحال فإن تفوق القوة الإسرائيلي لا يقتضي القبول بعدد ضحاياه من الفلسطينيين، بمعنى أنه لا يمكن التأقلم مع أعداد الضحايا الفلسطينيين واعتبارها نتيجة حتمية للصراع، بل واعتبارها جزءا من الصراع من حيث مقابلة القوة الإسرائيلية بأعداد ضحاياها كسبب رئيس للضغط على إسرائيل دوليا. هذه المعادلة ليست حتمية ولا يمكن فرضها على الفلسطينيين أو على أي من الشعوب المعنية مباشرة بهذا الصراع، وبالأخص اللبنانيين المهددين بالحرب.
وفي أحسن الأحوال فإن القبول بهذه المعادلة أو رفضها تبعا لمقتضيات الصراع وموازين القوى يقتضي أن يكون "مرئيا"، أي أن يكون الصراع برمته جزءا من السياسة فوق الأرض لا في الأنفاق. بمعنى أن كيفية خوض الصراع وكيفية حماية الفلسطينيين وتأمين حقوقهم يفترض أن تكون جزءا من سياسة فلسطينية عامة، لا أن تكون "حماس" وحدها من يقرر الأنسب للفلسطينيين (والأمر نفسه ينسحب على لبنان بخصوص "حزب الله").
وهذه مسألة جوهرية في شرعية "حماس" وشرعية قراراتها في الحرب والسلم. وليس قليل الدلالة أن يكون محمود عباس الذي أقصيت سلطته عن قطاع عزة منذ 2007 يسعى الآن لزيارته في ظل الحرب، ليس على ظهر الدبابة الإسرائيلية كما ستقول أصوات كثيرة في "محور المقاومة"، بل برضا "حماس" وكحاجة لـ"حماس" في لحظة تيقنها أن المعركة السياسية لم تعد ممكنة من الأنفاق حتى لو كانت هذه الأنفاق قد تحولت إلى ضرورة عسكرية، لكنها ضرورة لا يمكن النظر إليها بمعزل عن استعصاءات السياسة ومحدوديتها متى ما انحصرت في الأنفاق، في غزة وفلسطين كما في لبنان.