أتت "العملية التفجيرية" في تل أبيب (19/ 8)، التي تبنّاها الذراعان العسكريان لحركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي"، وسماهما "الاستشهادية"، باعتبارها استعادة لشكل كفاحي، وتدعيما للمقاومة في غزة، لتؤكد مجددا حقيقة افتقاد الحركة الوطنية الفلسطينية لاستراتيجية كفاحية ناجعة، ومستدامة، ويمكن استثمارها سياسيا، وخوضها الصراع مع عدوها، بالاعتماد على استعداد شعبها للتضحية، فقط، دون مبالاة بالأكلاف الهائلة، السياسية والاقتصادية والبشرية، ودون تفحص العوائد العكسية لانتهاج هذا الشكل أو ذاك، بحيث إن بعض الأشكال الكفاحية المعتمدة لفصائل المقاومة كانت تؤدي إلى استنزاف الشعب الفلسطيني بدل استنزاف عدوها.
درس الانتفاضة الثانية
كنا في مرحلة ماضية قد شهدنا أن "فتح" بقيادة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، استدرجت، إبان الانتفاضة الثانية (2000-2004)، إلى خيار "العمليات التفجيرية"، الذي كانت "حماس" قد انتهجته، من باب المنافسة، بدل دفع أو إقناع تلك الحركة بتركيز عملياتها ضد العسكريين والمستوطنين في الضفة، كما كانت تفعل "فتح" حينها. في المحصلة فقد أفضى ذلك التحول إلى عسكرة الانتفاضة، وانحسار طابعها الشعبي، والذهاب إلى المربع الذي تريده وتتفوق فيه إسرائيل، التي تغوّلت في حربها ضد الفلسطينيين، ما أدى إلى اجهاض الانتفاضة. وقد نجم عن ذلك، أيضا، تشديد إسرائيل قبضتها في القدس، وتعزيز الاستيطان في الضفة، وبناء الجدار الفاصل والجسور والأنفاق، التي تعزل المدن والقرى والمخيمات، وتقطع أوصال الضفة.
ضمن تلك التداعيات أتى خيار إسرائيل بالانسحاب الأحادي من غزة في 2005، للتخلص من العبء السياسي والأمني والأخلاقي الناجم عن السيطرة على أكثر من مليوني فلسطيني، في منطقة صغيرة وفقيرة الموارد، علما أنه قُتل في القطاع 230 إسرائيليا (في الفترة 1967-2005)، أي في 38 عاما، ("هآرتس"- 23/ 8/ 2005)، بمعدل ستة أشخاص في العام الواحد، منهم 124 إبان الانتفاضة الثانية (من أصل 1060 إسرائيليا قتلوا في الضفة وفي مناطق 48). بمعنى أن خسائر إسرائيل البشرية لم تكن وراء ذلك الانسحاب، إذ كانت في الضفة أعلى من غزة بكثير، في حين أن الضفة بالنسبة لإسرائيل أهم بكثير من غزة، ما يفسر الانسحاب منها وحصارها وتحويلها إلى مشكلة فلسطينية، على نحو ما شهدنا منذ 17 عاما.
مشكلة "فتح" في انتهاجها العمليات التفجيرية، أنه أتى في مناخات الهجوم الإرهابي في نيويورك وواشنطن (11 سبتمبر/أيلول 2001)، وهو ما لم ينتبه له الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، في حينه، رغم نباهته السياسية. وهو ما اقتنصته إسرائيل التي روّجت أن ما تفعله ضد الفلسطينيين جزء من الحرب العالمية ضد الإرهاب، التي أعلنتها الولايات المتحدة، آنذاك، أي إن الفلسطينيين خسروا في المواجهات العسكرية، وخسروا جزءا من الإطار الدولي المتعاطف معهم، وكانوا خسروا بتوحد المجتمع الإسرائيلي في معركة اعتبر أنها تهدد وجوده من أساسه.
المقاومة و"الطوفان"
هكذا، ومع تأكيد مشروعية المقاومة ضد الاحتلال بكل أشكالها، فإن المعضلة في "طوفان الأقصى" والعمليات التفجيرية، أنهما نمطان من خارج نمط المقاومة المسلحة طويلة الأمد، المتدرجة، التي تعتمد على الشعب، وتنطلق من حسابات سياسية وعسكرية مدروسة، لا على روح قدرية وعاطفية، لا تأخذ في الاعتبار موازين القوى ولا المعطيات العربية والدولية، ولا الأثمان البشرية والمادية، بقدر ما تعول على "الملائكة"، وتدخل محور "الممانعة والمقاومة"، بمبدأ "وحدة الساحات"، الذي لم يستطع، من الناحية العملية، حتى تخفيف وتائر حرب الإبادة الوحشية التي تشنّها إسرائيل منذ قرابة 11 شهرا.