وجوه محمّلة ذكريات... لوحات همسة شلهوب تروي تجربة الاغتراب السوري

في معرضها الفرديّ الأول بدمشق

وجوه محمّلة ذكريات... لوحات همسة شلهوب تروي تجربة الاغتراب السوري

احتضنت غاليري "البيت الأزرق" في ساروجة بدمشق نحو 32 لوحة للفنانة التشكيلية السورية همسة شلهوب، في معرضها الفردي الأول. استطاعت المتخرجة في قسم الرسم والتصوير الزيتي بكلية الفنون، من خلال مشاركاتها في معارض جماعية سابقة، إثبات موهبتها، وها هي تعرض أعمالها للمرة الاولى في معرض فردي.

خلال عام من التحضير، ركزت شلهوب على موضوع الهجرة والاغتراب، فتناولته من خلال بنية مفاهيمية محددة، مقدمة عناوين وأفكارا فرعية متنوعة مثل الهجرة والغربة والذكريات والهوية، وشخصيات مفترضة مهاجرة تظهر بحلة جديدة. كما تضمّنت لوحاتها صورا عن جلسات اجتماعية سورية وانطباعات خاصة حول فكرة الغربة وما يفقده الإنسان من خلال تجربة الاغتراب وخسارة الحاضن الاجتماعي والعاطفي.

فن مفاهيمي

انطلقت همسة شلهوب من الفن المفاهيمي، ودمجته بقالب رمزي يعكس واقع حياة السوريين، خاصة الشباب، وتجاربهم في السفر والاغتراب. ومن خلال هذا العمل، اعتمدت على الرموز مثل الحقيبة والسفن، والشخصيات الواقعية المزينة بعناصر جمالية وبصرية، لتقديم سرد بصري انطباعي لتجاربهم، ضمن بنية لونية تدريجية تكسر الحدود بين التشكيل اللوني والموضوع المطروح، مما يساهم في فهمه وتلقيه.

تظهر الشخصيات مبتسمة، إما لأنها نجت وإما لأنها تحاول التأقلم مع الهوية الجديدة

تتنوع اللوحات بين تصوير مفهوم السفر، وتجسيد الشخصيات بتعبيراتها وأشكالها المختلفة، وما تحمله معها من ذكريات أو الأماكن التي تنوجد فيها، مثل الحقيبة أحيانا. كما تُبرز اللوحات الشخصيات السورية من منظور انفعالي وجمالي تعبيري، فتحاكي الوجوه الصورة التي يجدها السوري لنفسه في الغربة. وتظهر الشخصيات مبتسمة، إما لأنها نجت وإما لأنها تحاول التأقلم مع الهوية الجديدة، أو في أبهى حلتها كإطار مأمول للمسافر. وقد تبدو أيضا صورة لشخص فقد حياته، لكن يبقى وجهه سعيدا أو يحمل انطباعا للحياة أو الجمال.

الحقيبة هي الرمز البديهي للمسافر أو الهارب، والسؤال الذي يطرح نفسه دائما: ماذا نضع في الحقيبة؟ ما الأشياء التي نحتاج إليها؟ لهذا، كان للحقيبة حضور واسع في أعمال شلهوب، فتصوّر مراحل مختلفة للحقيبة بدءا من رحلتها في سوريا وصولا إلى فراغها في أماكن اللجوء أو الهروب أو السفر. وتعكس الحقيبة أيضا ضيقها في أنها لا تتسع للذكريات والناس الذين ولدوا مع المرء وترعرع بينهم.

تلتقط الفنانة مشاهد من حياة الشباب وأسرهم، مركزة على ما يبقى في ذاكرتهم وما يمكنهم نسيانه أو تذكره، لتنتج بُعدا رمزيا للحقيبة، مستخدمة إياها كـ"مقبرة" رمزية للإنسان في وطنه، في استجابةٍ للصيغة السورية للمأساة. الحقيبة تُقدم بوصفها فنّا محتملا يعبر عن تجربة الهروب ومحاولة الخلاص من الألم السوري، أو كفنا للذكريات والأثر في سوريا. إنها تجسيد رمزي لبداية الطريق نحو المجهول.

تمثّل الحقيبة بداية الرحلة ونهايتها، لكنها تطرح سؤالا مفاهيميا: ما الذي يمكن أن تحتويه؟ وهل تكفي لتكون رمزا لبداية الرحلة؟ استخدمت شلهوب هذا الرمز بطرق متنوعة في لوحاتها، ففي بعض الأحيان تحتل الحقيبة مركز اللوحة، وفي أحيان أخرى تكون على الهامش لتكمل التكوين اللوني والانطباعي. تتغير مركزية الحقيبة في اللوحة مع تطور اللغة البصرية التي تسعى الفنانة إلى تقديمها.

بعض الحقائب تظهر متراصفة كأنها تطفو لتحمل مركبا، والمركب الورقي المتكرر في اللوحات يمثل تكرارا مفاهيميا واستمرارية للفكرة عبر الأعمال. السفينة الورقية، بما أنها تعبير عن هشاشة المركب الذي ينقل السوري من مكان لآخر، تُستخدم لتجسيد هشاشة المصير. من خلال تنويع موضعها داخل اللوحة، تُشكّل السفينة جزءا متعاظما من التركيب الرمزي، مما يسلط الضوء على هشاشة الرحلة والمصير في سياق الأعمال الفنية.

ويعكس تصوير غرق الحقائب مصير أصحابها الذين فقدوا حياتهم غرقا، في حين تتربع السفينة الورقية فوق هذه الحقائب رمزا للأمل المتلاشي. في بعض اللوحات، تحمل الحقائب أحذية رياضية في إشارة إلى الشباب الذين وضعوا أحذيتهم فوق الحقائب، مجسّدين بذلك حال مستقبلهم وأقدامهم على هذه الحقائب، بحثا عن الأمان في مكان آخر.

وجوه ووجوه

تُشكِّل همسة شلهوب بنية الوجه بأسلوب تعبيري محايد في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى تضيف سمة خاصة تمنح المتلقي انطباعا معينا. فتقسم الوجه رمزيا بين العتمة والنور، كأنها تبرز الهوية السورية المغتربة بين الأمل واليأس. فلا سوري ينجو من مصير الاغتراب أو من مشقة الهروب. حتى تشكيل الهوية الجديدة من خلال الملابس والزينة الجميلة، لا يؤدي إلى سعادة كاملة، إذ يبقى جزء من العتمة عالقا على الوجه السوري، كأنها ندبة لا تُمحى.

يعكس تصوير غرق الحقائب مصير أصحابها الذين فقدوا حياتهم غرقا، في حين تتربع السفينة الورقية فوق هذه الحقائب رمزا للأمل المتلاشي

هذا التكرار يظهر كإيقاع إيحائي في الوجوه، مع إضافة رموز بصرية بسيطة تشكل تكوينات رمزية تلمح الى واقعٍ معين أو سردية سورية خاصة تتعلّق بالمهاجر والمغترب. يُستخدم الكادر والإحاطة بالوجه لخلق رمزية لونية. فالأزرق، على سبيل المثل، يُستخدم  رمزا للغرق أو إشارة إلى الشخصيات التي أصبحت علاقتها بالبحر والماء جزءا من تجربتها الوجودية.

في لوحة أخرى، تُشكِّل شلهوب شخصية القبطان أو المُهرّب، الذي يحرك السفن في اتجاهات متعددة. هنا، يُجسد المصير السوري كعالق بيد قبطان مُغامر، مهرّب يجرّب في حياة الناس عبر تحريك السفن التي تبدو أقرب إلى السفن الورقية. تعبر هذه اللوحة عن هشاشة الكيان السوري وهو يحاول الوصول إلى الخارج، وتعكس هشاشة السفينة والحلقة الدائرية المفرغة بين شطوط المتوسط. تجسّد اللوحة تعبيرا عالقا في حياة السوريين، مستحضرة ذاكرة آلاف الموتى الذين قضوا في البحر. القبطان بالكاد يُعتبر قبطانا؛ فهو يقترب من كونه مهرّبا يتلاعب بحركة السفر التي تدور في حلقة مفرغة، مُثقلا بالسعي للنجاة. يقلب السفن الورقية بيديه، باحثا عن مصير لتجارته، وقد يكون مصير السوريين أيضا.

في لوحة أخرى، تُصور السفينة الورقية الهشة بوصفها تاجا للمهرّب، وكرسيه عبارة عن أسلاك مذهبة، مما يعكس تناقضا بين الرفاهية والتشوه. وجه المهرّب، الذي ننساه لننسى التجربة، تعيده الفنانة رمزا فظيعا يبقى ليشكل جزءا من الهوية، مُسجلا جزءا من الذاكرة الجمعية وصور المأساة.

يظهر بعض الوجوه دون تصوير دقيق أو انطباعي، فتغدو كدمات أو خدوش أو نقاط بتكوينات لونية متبعثرة على الوجه. من خلال هذا التقديم، تضيف شلهوب بُعدا تأويليا يعكس هوامش التأثر النفسي للمغترب، مثل الانكسار والخجل والخوف، أو حتى الموت. فانمحاء الوجه في التكوين يُمثل صورة منتهكة للذات التي عبرت ونجت أو سافرت وفقدت كل ذاكرة جميلة، أو ذاكرة يمكن الاعتراف بها وسردها.

في بعض اللوحات، يُمنح الوجه مركزية في التكوين، مستحوذا على حجم اللوحة بالكامل، مما يجعله عنصرا أساسيا في العمل الفني. مع ذلك، فإن نقطة الالتقاء مع المتلقي تُدمّر عبر بقع لونية فاقعة، تُستخدم لتشويه الوجه وكسر وحدة ظهوره، مما يؤدي إلى خلخلته وإحداث تباين لوني يخلّ بالاتزان البصري. هذه التقنية تُبرز التناقض بين الحضور البصري للوجه والتمزق العاطفي الذي يعبر عنه، مما يعزّز تأثير العمل الفني ويعكس الواقع المعقد للتجربة الإنسانية في ظل الغربة والتهجير.

ملمح جماعيّ

تقدم شلهوب تشكيلا جماعيا في بعض لوحاتها، مبرزة تعدّد الشخصيات وتكثيف الاجتماع السوري. تعكس هذه اللوحات روح التجمع المفقود في السرد الشفوي السوري، مستحضرة الذكريات الجماعية للأوقات التي يقضيها السوريون مع عائلاتهم وأصدقائهم. من خلال هذه الأعمال، تُعيد إنتاج الروحية الكلاسيكية للجلسات السورية، مُعبّرة عن واقع متخيل ومُتذكّر من خلال التفاصيل البصرية والرمزية.

اللوحات التي تصوِّر الجلسات السورية، بتشكيلها التقليدي وسياقها، تُكرس فكرة عالقة بين المغترب وذويه، وبين المغترب وأصدقائه. يجسّد هذا التكوين الفني البُعد النفسي العميق لهذه الجلسات، حيث يصبح الاجتماع العائلي أو الاجتماعي رمزا للاتصال المفقود والفقدان العاطفي الناتج من الاغتراب. يعكس التكرار في هذه اللوحات الارتباط العاطفي والحنين إلى الماضي، مما يضفي على العمل الفني بُعدا نفسيا وفنيا يعكس واقعا متناقضا بين الذكريات الجميلة والحاضر المؤلم.

ترفع شلهوب مستوى المخيلة التذكرية من خلال زرع صور تُخلد الافتقاد العاطفي والانفعالي لمفهوم الآخر القريب. هذا الافتقاد يتناول جوانب فلسفية تتعلق بالاجتماع والصدق في العلاقات الإنسانية، مقارنة بتجربة الاغتراب التي تواجه الآخرين الغرباء. يُظهر هذا التناول الفجوة بين العلاقات الإنسانية الأصيلة التي تُبنى على الصدق والتواصل العميق، وتجارب الاغتراب التي قد تفتقر إلى الصدق والحميمية.

بفضل هذه الرؤية، تعزز شلهوب التفكير الفلسفي حول التباين بين التجارب السابقة التي تعكس العمق والصدق في العلاقات، والتجارب الحالية التي ربما تكون أقل تواصلا وأقل عمقا. تعبّر لوحاتها عن البحث المستمر عن تلك الصداقات والعلاقات الأصيلة، وتسبر أغوار الفجوة بين الذكريات الجميلة وتجربة الواقع الحالي للمغترب.

تضيف شلهوب بعدا تأويليا يعكس هوامش التأثر النفسي للمغترب، مثل الانكسار والخجل والخوف، أو حتى الموت

لحظات إدراك

أضفت شلهوب على مشروعها الفني بُعدا مفاهيميا عميقا، دمجت فيه بين التشكيل البصري واللوني لخلق تجربة فنية خاصة. تتسم بالكثافة والحضور، مما يجعل المتلقي يواجه تجربة فريدة تتجاوز اللوحة التقليدية. يسعى كل تكوين داخل العمل الفني إلى تحقيق توازن خاص يميزه عن الآخرين، في حين يحافظ في الوقت نفسه على تناغم جمالي بين العناصر المختلفة.

تتضمّن اللوحات إضافة رموز ومعانٍ استدلالية، مثل ظهور الطعام على الحقيبة، فتدمج الوجوه والأجساد والصور في بعدٍ جماليا يعبِّر عن القلق السوري ويعكس الجمال التقني والحرفي للموهبة السورية. تُبرز لوحةٌ لفتاتين تناسبا في تدرج الانسيابية الواقعية للفن، مع دقة وجمالية تعززها زخرفة متزنة تضفي اللون وجماليات الخلفية.

إلى ذلك، تستثمر شلهوب في شحن الصورة الفنية ببنى تجريدية مقيسة ومتزنة، وهو ما يُعزّز عمق التكوين ويُثري التجربة البصرية. في بعض الأحيان، تُبالغ في التشكيل التجريدي وزخرفة اللون، مما يُحدث تأثيرا مكثفا على المتلقي ويساهم في تطوير بنية التلقي لديه. تسعى من خلال هذه المبالغة إلى تحدّي العين المتلقية وتوسيع حدود الفهم الفني، مضيفة بعدا آخر للتجربة الجمالية ومثيرة تأملات جديدة حول تكوين العمل وتفاعله مع المتلقي.

font change

مقالات ذات صلة