"المجلة" على خط النار بين "العمال الكردستاني" وتركيا

المسألة ذات خلفية سياسية أساسا ممتدة منذ الانتخابات التركية صيف 2015

شترستوك
شترستوك
مسلحون من "حزب العمال الكردستاني" في جبال قنديل العراقية

"المجلة" على خط النار بين "العمال الكردستاني" وتركيا

في اليوم الذي وصلت فيه "المجلة" إلى مدينة آميدية/العمادية في محافظة دهوك بإقليم كردستان العراق، والواقعة على بُعد 200 كيلومتر شمال غربي العاصمة أربيل، قصفت طائرات تركية تلال "سولاف" التي لا تبعد عن المدينة أكثر من 4 كيلومترات. وقالت وزارة الدفاع التركية في بيان رسمي مساء إنها استهدفت 17 مقاتلا من "حزب العمال الكردستاني".

مواجهات في كل مكان

السكان المحليون هناك حذروا من التنقل/التقدم شمال المدينة. فعلى بُعد مسافة قريبة جدا تقع قاعدة "كلي سولاف" العسكرية التركية، ومنها شمالا وغربا يتشكل المربع العسكري الأكثر سخونة للصراع بين الجيش التركي ومقاتلي "العمال الكردستاني" منذ عدة أشهر. فمن تلك القاعدة وصولا لقاعدة "دارسكيني" على بعد 20 كليو مترا شمالا، بالقرب من الحدود التركية، وصولا لمعبر "سةرزيري" الحدودي، ومنها إلى بلدة "كاني ماسي"، ثمة مواجهات وعمليات قصف جوي شبه يومية، أجبرت سكان أغلب القرى الواقعة في ذلك المربع على إخلاء منازلهم، وأوقفت الحياة السياحية والاقتصادية في المنطقة تماما.

في ذلك اليوم نفسه، كانت وسائل إعلام محلية تنقل أخبارا عن اندلاع حريق واسع في قرية "كلاله" في قضاء ماوت التابع لمحافظة السليمانية، والذي يبعد أكثر من 400 كيلومتر عن موقع العمليات الذي زارته "المجلة" في محافظة دهوك. قال سكان القرية إن طائرة حربية تركية استهدفت القرية بثلاثة صواريخ، ثم قصفت ناحية "قسره" في قضاء جومان شمالا، ومرتفعات في قضاء سيدكان التابع لمحافظة أربيل، الذي قال "قائم مقامها" لوسائل الإعلام إن قرابة نصف أراضي القضاء واقعة منذ أعوام تحت سيطرة الجيش التركي.

المساحة الجغرافية الواسعة والمدى الزمني الطويل للمواجهات، يكشف طبيعة الصراع المسلح بين الجيش التركي ومقاتلي حزب "العمال الكردستاني" ضمن أراضي إقليم كردستان. فما يجري ليس مجرد عمليات عسكرية موضعية ومؤقتة ضد مقاتلي "الكردستاني"، بغية إبعادهم عن الحدود التركية، أو خلق منطقة آمنة على طول الحدود المشتركة مع إقليم كردستان. بل تتجاوز ذلك، لتكون فعليا حربا واسعة النطاق، تدور حول السيطرة/ السيادة على بقعة جغرافية واسعة، هي أكثر المناطق الجبلية وعورة بين المنطقتين، تمتد على قوس يمتد من الحدود الإيرانية/ العراقية شرقا، وصولا للمثلث الحدودي للعراق مع كل من تركيا وسوريا، في منطقة جبلية شديدة الوعورة، بطول يتجاوز 500 كيلومتر.

حرب لا تنتهي

نتيجة لهذه الحرب، شهدت المناطق الشمالية من محافظة دهوك طوال السنوات الخمس الماضية نزوحا متواصلا للمدنيين، القرويين بأغلبيتهم، ومثلهم سكان الأقضية الموازية في محافظة أربيل. يُقدم المواطن الكردي "حسو ملا درويش" في حديث مع "المجلة" صورة عن مراحل النزوح المتتالية والمستمرة للسكان طوال هذه السنوات، قائلا: "قبل أربع سنوات نزحنا أنا وزوجتي من قريتنا الحدودية إلى بعض مناطق ذوينا بالقرب من بلدة (كاني ماسي)، لكننا كُنا نعود بين فينة وأخرى. منذ أكثر من سنتين صارت العودة ومتابعة الأعمال مستحيلة تماما، فيما اقتربت العمليات العسكرية من منطقة استقرارنا الجديدة، فغادرنا نحن ومستضيفونا إلى منطقة جديدة، جنوب غربي البلدة. وراهنا لا تبعد المواجهات العسكرية عن مكان استقرارنا أكثر من 5 كيلومترات، ولا نعرف أين سنكون بعد شهر من الآن".

هدف العمليات العسكرية الذي أعلنته تركيا، المتمثل في "القضاء التام على مقاتلي حزب العمال الكردستاني"، يفترض أن تكون المواجهات ممتدة على أغلب مناطق إقليم كردستان، حيث ينتشر مقاتلو "الكردستاني" في المناطق الجبلية المنيعة في كل مناطقه تقريبا، حتى في أعماق بعضها، مثل قضاء ماوت في محافظة السليمانية، الذي يبعد عن الحدود التركية أكثر من 200 كيلومتر عمقا.

نتيجة لهذه الحرب، شهدت المناطق الشمالية من محافظة دهوك طوال السنوات الخمس الماضية نزوحا متواصلا للمدنيين

لكنه يفترض أيضا أن تمتد العمليات حتى إلى العمق العراقي. فتركيا تتهم "العمال الكردستاني" بالسيطرة على المناطق الجبلية من قضاء سنجار غرب محافظة نينوى "الموصل" العراقية، وتشييد بنية عسكرية حصينة داخله، والسيطرة الأيديولوجية والسياسية على السكان المحليين هناك. كذلك ثمة حضور عسكري لمقاتلي الكردستاني في منطقة مخمور وجبال "قره جوخ" الوعرة المحيطة بها، على الحدود بين محافظتي أربيل وصلاح الدين. ومثلها وجود أمني وسياسي في محافظة كركوك والمناطق الكردية من محافظتي ديالى ونينوى (الموصل).
على ذلك، لا يُمكن للوضع أن يتغير عبر عمليات عسكرية مؤقتة وموضعية، كما توحي البيانات العسكرية والخطابات السياسية من الجانب التركي. خصوصا أن المراقبين الأمنيين يُشيرون إلى أن مقاتلي "الكردستاني" لا يستندون إلى بنية عسكرية قائمة على أساس المواجهة المباشرة، بل يعتمدون على التنقلات الراجلة ضمن المناطق الوعرة، التي اعتادوا على التعامل معها، واستهداف مناطق تمركز الجيش التركي بشكل خاطف، كما حدث أكثر من مرة خلال الشهور الماضية، وأوقع خسائر فادحة في صفوف الجيش التركي. 

أ ف ب
مروحية عسكرية تركية تحلق في منطقة سيرناك قرب الحدود التركية العراقية

في حديث مع "المجلة"، يشرح الباحث في الشؤون الأمنية حميد سمو ما يسميه "استعصاء الخيارات العسكرية" في هذه المواجهة، بدلالة استمرارها منذ سنوات، دون أفق أو تغيير حقيقي في موازين القوة بين الطرفين، ويتابع: "لو أخذنا مثلا التقرير الذي نشرته (منظمة فرق صناع السلام الأميركية CPT) في أواخر شهر يونيو/حزيران الماضي، وقالت فيه إن الجيش التركي أدخل أكثر من 300 دبابة ومدرعة إلى محافظة دهوك في إقليم كردستان، وزادت أعداد قواته بأكثر من ألف جُندي جديد في أسبوع واحد، وسيطر فعليا على الكثير من الطرق العامة شمال المحافظة. لكن، وبعد أسبوعين فحسب من التقرير، أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن قرب نهاية العمليات العسكرية التركية في العراق. صحيح لم تنتهِ العمليات على أرض الواقع، لكن ما حدث يدل على ارتباك، ويقدم ذلك دليلا واضحا على غياب رؤية سياسية استراتيجية لتركيا في التعامل مع الموضوع. فهي لا تستطيع عمليا تجفيف بحيرة مقاتلي "الكردستاني"، سواء داخل أراضيها أو دول الجوار، لكنها أيضا لا تملك أية أجندة للانخراط في عملية سلام داخلية، مثلما كانت خلال الأعوام 2009-2015، والتي لم تشهد فعليا مثل هذه المواجهات العسكرية الدامية". 
ويتابع الباحث حميد سمو حديثه قائلا: "لو أخذنا أعداد الضحايا الذين سقطوا جراء الصراع خلال السنوات التسع الأخيرة، حسب قاعدة البيانات التي تُحدثها (مجموعة الأزمات الدولية) بشكل شبه يومي، آخذة في الاعتبار كل المعلومات والمعطيات الصادرة عن الجيش التركي والمنظمات الحقوقية الكردية، سنجد أن 4700 مقاتل من (العمال الكردستاني) راحوا ضحية هذه المواجهات، فيما قُتل 1500 عسكري تُركي، ونحو 900 مدني ومجهول الهوية. هذه الأرقام، من حيث الكمية ووتيرة التراكم والنسبة بين الطرفين، تتطابق تقريبا مع ما يوازيها من أرقام خلال عقدي الثمانينات والتسعينات، وبذا تشكل دلالة واضحة على ديمومة الصراع، واستعصاء إنهائه عسكريا، لأن التفوق في العدد والتسليح والتقنيات العسكرية لصالح الجيش التركي، يوازيه تفوق في التكتيك وعدم الاستقرار ومعرفة الجغرافيا بالنسبة لمقاتلي الكردستاني". 

ليست مجرد مواجهة عسكرية

تخوض تركيا العمليات العسكرية الحالية تحت اسم "قفل المخلب" والتي أعلنت عنها منذ أواسط العام 2019. الجيش التركي قال وقتئذ إن عملياته تستهدف منع حزب "العمال الكردستاني" من شن هجمات كبيرة داخل الأراضي التركية. بدأت العملية بقصف جوي مكثف طوال شهور للكثير من المناطق الجبلية من إقليم كردستان، ما لبثت أن تحولت إلى هجوم بري وقواعد ومراكز عسكرية ثابتة ومسيطرة على مساحات جغرافية واسعة. هي حسب أرقام غير رسمية 11 قاعدة عسكرية، و19 معسكرا تدريبيا ومركزا عسكريا لتقديم الدعم اللوجستي للعمليات العسكرية. يستقر فيها أكثر من 7 آلاف جندي من القوات الخاصة التركية. 
لكن المسألة ذات خلفية سياسية أساسا، ممتدة منذ الانتخابات البرلمانية التي جرت في تركيا في صيف 2015. فوقتئذ، كانت المواجهات العسكرية بين الطرفين متوقفة تماما، لكن حين جرت الانتخابات وفقد حزب "العدالة والتنمية" التركي الأغلبية البرلمانية، وحاز حزب "الشعوب الديمقراطية" المؤيد للأكراد والمقرب من "العمال الكردستاني" على 91 مقعدا برلمانيا، وأعلن رفضه تنصيب رئيس الوزراء حينها رجب طيب أردوغان رئيسا للجمهورية، أعلن هذا الأخير نهاية المفاوضات وعملية السلام التي كانت تجرى مع "العمال الكردستاني".
طوال عامين لاحقين، 2015-2017، شهد الداخل التركي مواجهة سياسية وأمنية حامية بين الطرفين، اتهم "العمال الكردستاني" الأجهزة الأمنية المقربة من الرئيس أردوغان بتفجير مؤتمرين شعبيين لحزب "الشعوب الديمقراطية"، في كُل من العاصمة أنقرة ومدينة دياربكر. فيما رد الجيش التركي على محاولة خلق استعصاء مدني في أكثر من مدينة ذات أغلبية كردية مطلقة جنوب شرقي البلاد، مثل سلوبي ونصيبين وجزير، بتدمير أحياء كاملة منها، اتهمت المؤسسات الحقوقية الدولية الجيش التركي بارتكاب "فظائع حرب". 
وفي مرحلة لاحقة زاد الأمر تعقيدا، فالقوى السياسية الكردية في تركيا اتهمت السلطات التركية بتقديم دعم لوجستي ورعاية أمنية لمقاتلي تنظيم "داعش" الإرهابي في سوريا، ودفعهم لمهاجمة المناطق الكردية هناك، فاعتقلت السلطات التركية المئات من الساسة الأكراد، بما في ذلك زعيم حزب "الشعوب الديمقراطية" صلاح الدين دميرتاش، المعتقل حتى الآن في ما يُعرف بـ"قضية كوباني". 
لكن الأمور دخلت مسارا مختلفا منذ ربيع عام 2019، حين هاجم الجيش التركي منطقة عفرين الكردية شمال غربي سوريا واحتلها وأخلاها تقريبا من كل سكانها الأكراد. وبعد قرابة عام احتل الشريط الحدودي بين بلدتي تل أبيض ورأس العين ذات الأغلبية الكردية أيضا. 
خلال هذه السنوات، يرى المراقبون أن المواجهة بين الطرفين أخذت طابعا عسكريا تماما، دون أي حضور أو إمكانية لمناقشة الأمر سياسيا، لثلاثة أسباب موضوعية تراكمت خلال هذه المرحلة.

القوى السياسية الكردية في تركيا اتهمت السلطات التركية بتقديم دعم لوجستي ورعاية أمنية لمقاتلي تنظيم "داعش" الإرهابي في سوريا

 كما أن اعتراض حزب "الشعوب" المقرب من الأكراد على المشروع السياسي للرئيس أردوغان خلال العام 2015، دفع هذه الأخير الى التحالف مع "الحركة القومية التركية" المتطرفة (MHP)، وفي مرحلة لاحقة صار الوجود السياسي للرئيس أردوغان مرهونا بهذا التحالف. وحسب ذلك، فقد تخلى الرئيس أردوغان عن مشروعه السياسي التحديثي الذي قدمه خلال عام 2002، والذي كان قائما في واحد من أهم بنوده على "حل القضية الكردية". 
وخلال الفترة ذاتها، وضمن ملف مواجهة الإرهاب، توثقت العلاقات العسكرية للفصائل المقربة من العمال الكردستاني مع عدد من الدول الغربية، تحديدا مع الولايات المتحدة، التي صارت تقدم لمقاتلي الفصائل الكردية السورية والعراقية دعما عسكريا وسياسيا واسعا، وبذا غدت إمكانية إيجاد علاقة بين العمال الكردستاني والولايات المتحدة متوفرة، وهو يسبب قلقا سياسيا وأمنيا شديدا لتركيا، أرادت خلال هذه المرحلة تصفيته عسكريا، وبأي ثمن. 
غير بعيد عن ذلك، تبدو إيران حاضرة بقوة. فالاستراتيجية الأمنية والسياسية بعيدة المدى لطهران، تُريد إبقاء "العمال الكردستاني" كأداة للضغط على تركيا أو مزاحمتها على الدوام، سواء في العراق وسوريا، أو حتى داخل تركيا نفسها. يستدل المراقبون السياسيون على "اتفاقية سنجار" التي وقعتها الحكومة الاتحادية العراقية مع إقليم كردستان، منذ أكثر من خمس سنوات، والقاضية بتطبيع الأوضاع في قضاء سنجار بطريقة توافقية بين المركز والإقليم، والتي تتطلب فعليا إخراج المقاتلين المقربين من "العمال الكردستاني" من تلك المنطقة. لكن القوى السياسية والعسكرية العراقية، وعلى رأسها "الحشد الشعبي" المرتبط بإيران، أعاقت تنفيذ الاتفاقية.

font change

مقالات ذات صلة