خمسون عاما بين استقالة نيكسون وانسحاب بايدنhttps://www.majalla.com/node/321917/%D9%88%D8%AB%D8%A7%D8%A6%D9%82-%D9%88%D9%85%D8%B0%D9%83%D8%B1%D8%A7%D8%AA/%D8%AE%D9%85%D8%B3%D9%88%D9%86-%D8%B9%D8%A7%D9%85%D8%A7-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D9%82%D8%A7%D9%84%D8%A9-%D9%86%D9%8A%D9%83%D8%B3%D9%88%D9%86-%D9%88%D8%A7%D9%86%D8%B3%D8%AD%D8%A7%D8%A8-%D8%A8%D8%A7%D9%8A%D8%AF%D9%86
في الثامن من شهر يونيو/حزيران 1974، أمرت المحكمة العليا الأميركية الرئيس ريتشارد نيكسون بتسليمها تسجيلات 64 مكالمة هاتفية خاما، أجراها من المكتب البيضاوي أثناء عملية السطو على مبنى ووترغيت في العاصمة واشنطن سنة 1972. وكانت إدارة نيكسون تعاني من أكبر فضيحة سياسية في تاريخ أميركا المعاصر، بعد اتهام أنصار الرئيس بدخول المبنى للتنصت الشهير على منافسيه من "الحزب الديمقراطي". سلّم نيكسون التسجيلات الصوتية على مضض، وفي أحدها بتاريخ 23 يونيو 1972، تبين أنه كان على علم كامل بما جرى في مبنى ووترغيت، وأغلب الظن أن عملية السطو جاءت بأمر مباشر منه. وفي 13 يوليو/تموز 1974، أصدرت "لجنة ووترغيت" في مجلس الشيوخ الأميركي تقريرها المؤلف من جزأين وما يزيد على ألفي صفحة، شرحت فيه كل ملابسات القضية دون إدانة الرئيس بجرم التنصت إدانة مباشرة. وفي مذكراته وصف وزير الخارجية في حينها هنري كيسنجر الموقف قائلا: "نادرا ما كان نيكسون يتحدث عن ووترغيت، وعندما يفعل، لم يكن يتحدث عن جوهر القضية بل عن حسابات التصويت المطلوبة لإقالته. كان رجلا مستيقظا في كابوسه الخاص".
منجزات نيكسون الضائعة
غطّت "فضيحة ووترغيت" على كل منجزات عهد نيكسون، وكان في مقدمتها الزيارة التاريخية التي قام بها إلى بكين في فبراير/شباط 1972، منهيا حالة من القطيعة والعداء مع جمهورية الصين الشعبية مستمرة منذ عام 1949. وقد شجّع الرئيس أنور السادات على التخلّي عن الخبراء الروس، وتولّت إدارته مهمة فك الاشتباك بين القوات المصرية والإسرائيلية بعد حرب أكتوبر. ودعا نيكسون إلى مؤتمر جنيف للسلام نهاية عام 1973، الذي نتجت عنه اتفاقيتا "سيناء-1"، و"سيناء-2"، مع إقامة منطقة عازلة وانسحاب القوات المصرية إلى غرب القناة.
وبعد الانتهاء من الملف المصري، انتقل ريتشارد نيكسون إلى دمشق، قبل شهرين من استقالته، في 15 يونيو 1974. وقرر إعادة العلاقات الثنائية مع سوريا، وطالبه الرئيس حافظ الأسد بإعطاء تعهد خطي باسم الولايات المتحدة، والاعتراف بحقوق سوريا الكاملة في الجولان المحتلة منذ عام 1967. وقد وجه الأسد مجموعة من الأسئلة المباشرة لنيكسون، مثل: "هل ستقوم إدارتكم بالضغط لتنفيذ القرار 338، بما يؤدي إلى استعادة الجولان دون أي قيد أو شرط؟ ومتى سيعود الجولان؟ وماذا عن التعهد الخطي الذي طالبت به سوريا؟".
كما غرقت إدارة نيكسون في حرب أكتوبر ونتائجها سنة 1973، غرق بايدن في حرب غزة الأخيرة وقدم دعما منقطا لإسرائيل
كانت سياسة هنري كيسنجر في الشرق الأوسط قد بُنيت على تجنب الإجابة على كل هذه التساؤلات، وعدم إعطاء أي تعهد فيما يتعلق بالجولان. وعندما شعر كيسنجر بأن نيكسون على وشك نطق تعهد محرج أمام الرئيس السوري قاطعه بالقول: "سيدي الرئيس... لقد أدركنا الوقت، وانتهت مدة زيارتنا. الطائرة بانتظارنا". لكن الأسد عاد وألح، فكرر كيسنجر تدخله الفظ ما جعل نيكسون يجيبه بغضب: "هنري، ألا تريدني أن أتكلم؟".
قرار الاستقالة
استمر نيكسون في أداء مهامه الرئاسية، وتحدث عن التضخم في خطاب تلفزيوني يوم 25 يوليو 1974، قبل يوم واحد من استقباله لوزير خارجية ألمانيا الغربية هانز ديتريش غينشر. ويُضيف كيسنجر في مذكراته أن نيكسون وعلى عكس اعتقاد معظم الناس، كان رجلا خجولا للغاية وقليل الثقة بنفسه، وهو ما يفسر– بحسب قول كيسنجر- عزوفه عن الحديث عن "فضيحة ووترغيت" حتى مع أقرب المقربين له. وفي 9 أغسطس/آب 1974 قرر الرئيس الاستقالة، على الرغم من معارضة زوجته وأولاه، وخرج من البيت الأبيض أمام استعراض حرس الشرف، ليدخل فورا إلى مكتب نائبه وخليفته الرئيس جيرالد فورد. بعدها بشهر، يوم 8 سبتمبر/أيلول، أصدر الرئيس فورد عفوا مطلقا غير قابل للطعن عن الرئيس نيكسون، ليمضي الأخير حياته بسلام حتى وفاته عن عمر ناهز 81 عاما يوم 22 أبريل/نيسان 1994.
وتحل هذا الشهر الذكرى الخمسون لاستقالة ريتشارد نيكسون من الرئاسة الأميركية، في وقت تعيش فيه العاصمة واشنطن حالة من الترقب الشديد إبان قرار الرئيس جو بايدن الانسحاب من الانتخابات الرئاسية المقبلة، ودعم ترشيح نائبه كامالا هاريس عن "الحزب الديمقراطي". كان الرئيس بايدن في الثانية والثلاثين من عمره يوم استقالة نيكسون قبل خمسين سنة، يمارس مهامه في مجلس الشيوخ الذي انتخب لعضويته سنة 1972، قبل ستة أسابيع من الحادث الأليم الذي أودى بحياة زوجته الأولى نيلّلا. ومن بين من اتصل به معزيا ومواسيا يومها كان الرئيس نيكسون شخصيا، بحسب ما جاء في التسجيلات الصوتية التي ظهرت في أعقاب "فضيحة ووترغيت".
كما كان نيكسون من قبله، لم يكن جو بايدن مستعدا لإنهاء حياته السياسية، وقد ظل متمسكا بها حتى النهاية. وفي 6 يوليو الماضي تحدث من شبكة أخبار "ABC" وقال إن "الخالق العظيم وحده" قادر على إقناعه بالانسحاب من المعركة الرئاسية، ولكنه انسحب بعدها بأسبوعين، في الحادي والعشرين من الشهر نفسه. وكان نيكسون يقول كلاما مشابها قبل استقالته في 9 أغسطس 1974، يوم قال إنه "سيقاتل في الجحيم" للحفاظ على منصبه. كلّ منهما عانى من تراجع حاد في شعبيته، ومن الدعم المطلق من حزبيهما، وكما خيّمت "فضيحة ووترغيت" على ريتشارد نيكسون، خيمت حالة جو بايدن الصحية على حملته الانتخابية، وتحديدا بعد أدائه المتواضع جدا أمام منافسه دونالد ترمب في المناظرة الرئاسية يوم 27 يونيو الماضي. وكما غرقت إدارة نيكسون في حرب أكتوبر ونتائجها سنة 1973، غرق بايدن في حرب غزة الأخيرة وقدم دعما منقطا لإسرائيل، ولكنه وبخلاف نيكسون، لم يتمكن من حسمها ولا من إنهائها بشكل يطلق عملية سلام في أعقابها.
آخر رئيس أميركي انسحب من سباق انتخابي كان الرئيس ليندون جونسون سنة 1968، وهو الذي جاء إلى منصبه بمحض المصادفة، يوم كان نائباً للرئيس جون كينيدي
استقال نيكسون قبل انتهاء ولايته بسنتين ونصف السنة، أما بايدن، فتنتهي ولايته في شهر يناير/كانون الثاني 2025. بعض الجمهوريين، وفي مقدمتهم رئيس مجلس النواب مايك جونسون، يقولون إن بايدن، طالما أن حالته الصحية لا تسمح له بالبقاء في السباق الرئاسي، فهي أيضا لا تسمح له بالبقاء في منصبه الرئاسي، مطالبين باستقالته من البيت الأبيض قبل انتهاء الولاية الدستورية. وكان الرئيس ترمب قد ذهب أبعد من ذلك، حينما وصف خصمه السابق بأنه يشكل تهديدا للأمن القومي الأميركي، وبأنه "خطر على كل رجل وامرأة وطفل في هذا البلد".
التاريخ يعيد نفسه مرارا وتكرارا
كان ريتشارد نيكسون الرئيس الأول– ويبقى الأخير– الذي يستقيل من منصبه، بينما يعد جو بايدن الرئيس الأول منذ أكثر من خمسين سنة الذي ينسحب من السباق الرئاسي. كما أن انسحاب بايدن جاء بعد إدراكه أن الفوز على ترمب سيكون صعبا للغاية، بينما استقالة نيكسون كانت تجنبا للإقالة المهينة أو ربما الاعتقال. لم يكن نيكسون أول رئيس يواجه اتهامات قد تؤدي إلى الإقالة، فقد سبقه الرئيس جاكسون سنة 1868، ولحقه الرئيس بيل كلينتون حول قضية مونيكا لوينسكي سنة 1998، ومؤخرا دونالد ترمب، المتهم بتجاوزات أخلاقية وسياسية عدة.
آخر رئيس أميركي انسحب من سباق انتخابي كان الرئيس ليندون جونسون سنة 1968، وهو الذي جاء إلى منصبه بمحض المصادفة، يوم كان نائباً للرئيس جون كينيدي. عندما قتل كيندي في نوفمبر/تشرين الثاني 1963، وجد ليندون جونسون نفسه في البيت الأبيض خليفة للرئيس المقتول، وعلى الرغم من فوزه في انتخابات عام 1964، فإن حرب فيتنام قضت عليه، وأدت إلى تراجع شعبيته إلى نسبة 36 في المئة. فقرر الانسحاب وعدم خوض الانتخابات المقبلة، قبل موعدها بحوالي سبعة أشهر، تاركا الترشح الديمقراطي لنائب الرئيس هيوبرت همفري.
أصبح نائب الرئيس هاري ترومان رئيسا بالمصادفة يوم جاء إلى الحكم في أعقاب وفاة الرئيس فرانكلين روزفلت في أبريل 1945
يشار إلى أن وضع كامالا هاريس اليوم يشبه وضع هيوبرت همفري قبل ستين سنة، ولكن الأخير خسر المعركة الانتخابية يومها، وفاز عليه ريتشارد نيكسون، مرشح "الحزب الجمهوري".
قبلها أصبح نائب الرئيس هاري ترومان رئيسا بالمصادفة يوم جاء إلى الحكم في أعقاب وفاة الرئيس فرانكلين روزفلت في أبريل 1945. وخاض انتخابات عام 1948 وفاز بولاية دستورية أصيلة، قبل أن ينسحب من السباق عام 1952 بسبب تدني شعبيته إلى نسبة 22 في المئة. رشّح حاكم ولاية إلينوي بديلا عنه، ولكن الأخير خسر السباق أمام المرشح الديمقراطي دوايت أيزنهاور. ثم جاءت الانتخابات الرئاسية لعام 1976 التي خاضها الرئيس جيرالد فورد، وهزم أمام المرشح الديمقراطي جيمي كارتر. نيكسون نفسه كان نائبا للرئيس أيزنهاور عند ترشحه للرئاسة في المرة الأولى سنة 1960 ولكنه خسر، كما خسر بعده نائب الرئيس آل غور في انتخابات عام 2000. هذه المؤشرات كلها لا تطمئن كامالا هاريس اليوم، لكثرة نواب الرئيس الذين خسروا السباق الانتخابي بعد دخولهم فيه، إما بالمصادفة وإما عن سابق إصرار وتصميم، ولكن الاستثناء الأبرز لقاعدة الخسارة كان نائب الرئيس جورج بوش الأب، الذي فاز في انتخابات عام 1989 خلفا للرئيس رونالد ريغان.
وبغض النظر عن تقييمنا لتجربة ريتشارد نيكسون ولاستقالته الشهيرة سنة 1974، فهي أصبحت اليوم أمام محكمة التاريخ، ولا علاقة لها بما يحدث اليوم في أميركا إلا بما تتيحه لنا من الدروس والعبر التي يمكن الاستفادة منها، سواء بالنسبة للرئيس جو بايدن، أو لنائبة الرئيس كامالا هاريس.