"أميركا تستعد للحرب لتمنع الحرب"، كان هذا تعليق مسؤول رفيع منخرط في مفاوضات وقف النار في غزة، على الحشود العسكرية، البحرية والبرية، الأميركية في الشرق الأوسط. ويضيف أن أميركا "تحمل عصا غليظة وتتحدث بنعومة". فالمنطقة أمام ثلاثة خيارات، وواشنطن ترمي بثقلها العسكري والدبلوماسي، لدفعها إلى خيار التهدئة والتسويات بدءا من وقف النار في غزة وترتيبات في جنوب لبنان... لسحب المنطقة من حافة الهاوية.
ومنذ هجوم "حماس" في 7 أكتوبر/تشرين الأول على غلاف غزة ورد إسرائيل، دخل أهل القطاع في مأساة ثقيلة ومستمرة. وانزلق الشرق الأوسط في جولات تصاعدية من التوتر، كان أبرز ملامحها انتقال إسرائيل وإيران من "حرب الظل" والوكلاء إلى المواجهة المباشرة عبر قصف تل أبيب لقنصلية طهران في دمشق في أبريل/ نيسان ثم رد إيران بحملة على إسرائيل من 300 صاروخ ومسيرة، ساهمت أميركا وحلفاؤها بإسقاطها والدفاع عن الدولة العبرية.
المرحلة الأخطر كانت بعد اغتيال إسماعيل هنية في طهران وفؤاد شكر في معقله، الضاحية الجنوبية لبيروت، مما وضع المنطقة أمام ثلاثة خيارات
المرحلة الأخطر، كانت بعد اغتيال إسرائيل، إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لـ"حماس" في طهران وفؤاد شكر القائد العسكري "الشبح" لـ"حزب الله" في معقله، الضاحية الجنوبية لبيروت، مما وضع المنطقة أمام ثلاثة خيارات:
الأول، قيام إيران، كما وعد "المرشد" على خامنئي الذي التقى هنية قبل ساعات من اغتياله، بـ"الانتقام" وسط توقعات بأن يكون عبر هجمات من إيران ووكلائها وحلفائها في اليمن ولبنان والعراق والأراضي الفلسطينية، على إسرائيل من جهاتها الأربع، بما في ذلك مواقع رسمية وعناوين رمزية في تل أبيب.
منبع القلق الإضافي، أن يتخذ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من هجمات طهران الجديدة، مبررا لتوسيع الحرب، إما بتوجيه ضربات للبرنامج النووي الإيراني أبعد من الضربات السابقة على "نووي" أصفهان في أبريل، وإما بهجوم واسع جغرافياً وعميق نحو الأنفاق، على "حزب الله" بدءا من جنوب لبنان وقيام "الحزب" بالرد، مما يفتح الباب أمام تدخل أميركا التي تعهدت بـ"الدفاع عن أمن إسرائيل".
الثاني، تأجيل تنفيذ الرد الإيراني في حال تم إنجاز اتفاق تبادل أسرى ووقف للنار في غزة بين إسرائيل و"حماس" عبر الوساطة الأميركية-القطرية–المصرية، ثم الانتقال إلى ترتيبات في لبنان بموجب وساطة المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين. يتضمن هذا البناء على وقف النار، لإدخال مساعدات إنسانية ودعم النازحين في قطاع غزة وعودتهم مع بدء تلمس "اليوم التالي" بأبعاده السياسية.
الثالث، الانتظار، أي استمرار الوضع المتوتر بالإقليم على ما هو عليه مع استمرار القلق من إفلات الأمور وشرارة جديدة. واستمرار العمليات العسكرية في القطاع عبر توغلات وقصف، واستمرار الاغتيالات والاستهدافات لقادة ومفاصل في "حزب الله" وقادة لـ"الحرس الثوري" الإيراني في سوريا. ويتضمن هذا الاحتمال، ضربات من ميليشيات مدعومة من إيران، لمواقع أميركية في العراق وسوريا، وتوسيع مروحة قصف "حزب الله" والحوثيين و"حماس" لأهداف إسرائيلية في الشمال والجنوب.
رغم التدخلات والمبادرات والبيانات الصينية والروسية، فإن أميركا هي الوحيدة التي تملك الخيوط الرئيسة لملفات الشرق الأوسط
من الأمور الرئيسة التي أظهرتها حرب غزة، أن واشنطن لا تزال اللاعب الدولي الأبرز في الإقليم. ورغم التدخلات والمبادرات والبيانات الصينية والروسية، فإن أميركا هي الوحيدة التي تملك الخيوط الرئيسة لملفات الشرق الأوسط. ومنذ اليوم الأول لما بعد "مفاجأة أكتوبر"، وفرت إدارة جو بايدن الدعم العسكري والدبلوماسي والاستخباراتي لإسرائيل في حربها الوجودية. وعندما لوحت إيران بقصف إسرائيل في أبريل الماضي، كانت أميركا حاضرة بكل ثقلها للدفاع عنها.
وفي الأيام الأخيرة، دخل الدور الأميركي مرحلة جديدة، إذ إن إدارة بايدن أرسلت ثلاث حاملات طائرات عسكرية إلى مياه الشرق الأوسط، حيث باتت المنطقة تضم حاليا نحو 40 ألف جندي، في أكبر انتشار عسكري أميركي من نوعه منذ سنوات طويلة، فتح الطريق له قائد القيادة المركزية الوسطى مايكل كوريل.
هذه هي "العصا الغليظة" لإدارة بايدن، أما "الكلمات الناعمة"، فيحملها مدير "وكالة الاستخبارات المركزية" (سي آي ايه) وليم بيرنز، ووزير الخارجية أنتوني بلينكن (وصل لتل أبيب في تاسع زيارة للمنطقة منذ 7 أكتوبر)، والمبعوث الرئاسي آموس هوكشتاين، ومسؤول الشرق الأوسط في البيت الأبيض بريت ماكغورك، الذين يتجولون في عواصم الشرق الأوسط، من بيروت إلى الدوحة وتل أبيب والقاهرة وغيرها.
أميركا "تستعد للحرب كي تحقق السلام" حسب المثل القديم، وبايدن "يحمل عصا غليظة ويتحدث بنعومة" حسب قول الرئيس تيودور روزفلت
واضح أن أميركا "تستعد للحرب كي تحقق السلام" أو تمنع الحرب، حسب المثل القديم، وأن بايدن "يحمل عصا غليظة ويتحدث بنعومة" حسب قول الرئيس تيودور روزفلت. واشنطن ترمي بكل ثقلها لدفع الأطراف نحو خيار التسوية بدءا من وقف النار في غزة وترتيبات في جنوب لبنان، أو على الأقل لإبعاد المنطقة من خيار الحرب بين إسرائيل وإيران وسحب المنطقة من أعماق الأنفاق.
لكن هل ينفع نهج بايدن المزدوج، الضغط العسكري والمبادرة الدبلوماسية، مع نتنياهو الذي يريد الاستمرار بالحرب والانتقال من تصعيد إلى آخر؟ هل ينفع أسلوب "العصا الغليظة والكلمة الهادئة" مع الميليشيات والتنظيمات كما ينفع مع الجيوش والدول؟ هل ينفع مع قادة في الأنفاق تحت الأرض، كما في غزة وجنوب لبنان، كما ينفع مع قادة في القصور والمكاتب؟ هل ينفع مع إيران التي تحارب في أراضي الآخرين؟ إلى أي حد تسيطر إيران على وكلائها وحلفائها وميليشياتها في الإقليم؟
إدارة بايدن التي أرادت الخروج من مستنقع الشرق الأوسط، وضعت نفسها في اختبار جديد في مرحلة انتقالية ولاعبين كثر في المنطقة، في وقت تضعف سطوة كرسي البيت الأبيض بانتظار الرئيس الجديد.