كم من قتلى في غزة المبادة بلا قبور، وكم من قبور فيها بلا شواهد.
حتى في المقتلة ومصير الموت المسلط من آلة بطش إسرائيليّة تحصد مدنيي القطاع ليل نهار، شمالا وجنوبا، في كلّ مكان، لا حظوة للقتيل بأن ينال كرم الدفن اللائق به ككائن إنساني، أن ينال حق النوم بسلام في قبر مشفوع بشاهدة تدل عليه.
في القبور الجماعية لجثث القتلى المواراة من طرف أهليها تعجيلا بمجاوزة تحلّلها الوشيك أو وهي محلّلة فعلا بسبب الحصار ومطر القنابل المنهمر، أو من طرف مرتكبي جرائم زهقِ أرواحها من جنود الاحتلال بغية إخفاء أثر المذابح الشنعاء... تتعالق وتتعانق وتتشابك الأعضاء في حفرة هائلة، ما يشبه أخدودا جماعيا مطمورا لمدنيين لم يخطر في بال أحدهم أن يكون مصيره على ذلك النحو المأسوي. مدنيون لم يسبق أن جمعتهم مصائر الحياة في الغالب ووحّدهم مصير المقتلة الشاملة، فتوحدوا من حيث لم يحتسبوا ضمن قبر واحد، هو في الواقع مقبرة محتشدة في قبر هائل.
لا شاهدة لهؤلاء القتلى الجماعيين، ودفنهم التراجيدي غير عادل بالمرة، إذ حق الانفراد لكل واحد منهم بقبره على حدة معدوم، وحيث لا شاهدة لأسمائهم المجهولة، بعضم على الأقل، فالمقتلة تغدو اثنتين، أولا، فجائعيّة مصير الموت عن سبق الإصرار والترصد من عدوّ فاقت وحشيته وإرهابيّته سقف النازية ومجمل تاريخ الإبادات والمحارق عن بكرة أبيها، وثانيا، فجائعيّة مصير الدفن المنذور للمجهول.
تبدو الغيرنيكا عملا متواضعا أمام هذا المشهد الغزاوي اليومي المحاصر لا بقنابل إسرائيل فحسب، ولكن بتواطؤ أوروبي وصمت العالم
أن تكون مجهولا في قبر جماعيّ مجهول! مشهدٌ لا يقل رعبا عن لحظة القتل الغادرة. هذا إن كنت بكامل جثتك، فعمى التقتيل الوحشي مهووس بالأشلاء، أن يتشظى جسد الفلسطيني ويمسي أشلاء متطايرة في أيما جهة، غير قابلة للعودة والالتئام في جسم فرانكشتاينيّ. هذا هو الكابوس المؤرق لكل القتلة.
ولأنك الجثة المفجرة أشلاء، فكم قبرا لك إذ يكون مصير دفن كل شلو منك في أكثر من حفرة جماعية؟ تبدو الغيرنيكا عملا متواضعا أمام هذا المشهد الغزاوي اليومي المحاصر لا بقنابل إسرائيل فحسب، ولكن بتواطؤ أوروبي وصمت العالم.
في ألطف أحوال المصائر الجنائزية، قد يحظى القتيل بقبر، ولكن الشاهدة تغيب، تغيب الشاهدة ليس لعدم وفرة مادتها بالضرورة، خشبا أو حجرا أو رخامة، بل لأنّ القتيل مجهول، بلا هوية تدلّ عليه، في ضباب الغارات الإسرائيلية المتفاقمة وهي تستهدف القريب والغريب، في جزيرة غزّة إنسانا وحيوانا ونباتا ومعمارا.
أما أفجع أحوال المصائر التراجيدية، فحالة القتلى الذين بلا قبور، قتلى تفسّخت جثثهم في العراء، أو تفككت أعضاؤهم وتطايرت شظايا، أو تلاشت تحت الأنقاض، في أقبية لم يدركها مسعف وظلت قيد نسيانها الأعزل، في مهبّ أفولها الحزين.
من يكتب حكايات هؤلاء البسطاء المتلاشين في عزلة مصرعهم على قارعة هوامش منسية؟ من يفكّر في هؤلاء العمال الآفلين في ظلال اليباب العميم؟ من منا أزهرت في مناماته وجوه هؤلاء المزارعين الطيبين المتروكين لديدان المحو في عرائهم الموحش؟ من منا استضاف هؤلاء الصيادين الغرباء في تخييله وأعدّ لهم قبورا تليق بإنسانيتهم النبيلة؟ من منا تكرّم بأحلامه واستدعى أطفال بائعي الخبز، نساء البنائين إلى أحلامه وأعدّ لهم شواهد تليق بربيع أسمائهم وتواريخهم الموشومة؟
في المقابل، لم يهدأ منام من شرّفه أهله أو مواطنوه من القتلى بالدفن في قبور بالكاد حصّلوها كمعجزة أمام انسداد حلقات المقابر، وسطوة الحصار المطوق للمدينة بأطنان القنابل الهيروشيمية، نعم، المفارقة الصفيقة أن تُرهب حتى قبور الفلسطينيين عدوها الإسرائيلي، كيف لا وأكثر من حالة تُسجّل نبشَ جنود الاحتلال لمقابر هنا وهناك، والتنكيل بالجثث الحديثة العهد بالدفن. كأن الإسرائيلي غير مطمئن لموت الغزاوي في قبره. غير مسلّم بأن قتيله غدرا موارى التراب وهو في عداد الموتى. عليه أن ينبش ترابه كيما يستوفي اليقين من أنّ النائم في القبر هو محض جثة وليس محض مقاوم متنكر في جثة!
الذريعة الحمقاء التي يشهرها النابشون هي احتمال العثور على جثة من جثث الرهائن، والحال أنّ انتهاك حرمة الأموات من الفلسطينيين مسألة مقصودة تستهدف إخراج رفاتهم على قارعة القبور ليكون بسفالة طعاما للحيوانات والطيور.
وأمام تجريف الجيش الإسرائيلي لمقابر غزة، باتت زوايا المنازل التي سلمت من القصف هي بديل قبور القتلى من الأقارب، أمست أنقاض المستشفيات وباحات الأحياء السكنية ودروبها هي المأوى كمدافن لم تقتصر على فضاءات مفارقة كقاعات الأفراح، وشملت ساحات المدارس وملاعب الكرة وغيرها...
في قلب هذا المشهد اليومي الفجائعي ألفى الكثير من الغزاويين أنفسهم بقدرة قادر حفاري قبور
في قلب هذا المشهد اليومي الفجائعي، الذي لا يخطر على بال سيّد جنازات ياسوناري كاواباتا، ألفى الكثير من الغزاويين أنفسهم بقدرة قادر حفاري قبور، بعدما اضطر بعضهم للحفر ودفن القتلى من أقاربهم وأصدقائهم وأهل مدينتهم، حتى أمسى تطوعهم للأمر نمط حياة طارئا، وباتوا حفاري قبور فعلا، الى درجة أنساهم في مهنتهم الآنفة.
هؤلاء الحفارون الطارئون مؤرقون أيضا بالقتلى الذين بلا قبور، بالقدر نفسه الذي تؤرقهم القبور التي بلا شواهد.
أرقٌ كأنّما يتداعى له بحر غزة في الجوار مهسهسا بملء الموج:
"أيها القتيل الذي بلا قبر، قبرك هو الوطن
أيها القتيل في قبر بلا شاهدة، شاهدتك هي فلسطين".