"فتيان دمشقيون في نزهة"... أن تنادي البلاد باسمها الصحيح

من يمتلك اللغة يمتلك المكان

 Lina Jaradat
Lina Jaradat

"فتيان دمشقيون في نزهة"... أن تنادي البلاد باسمها الصحيح

يشرح الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين في مقالة له ترجمها سامح سمير تعريف كافكا الملتبس للسحر قائلا إنه يعتبر أننا "لو نادينا الحياة باسمها الصحيح لهرعت إلينا، لأن هذا هو جوهر السحر، فالسحر لا يخلق الشيء بل يستحضره".

يحاول نوري الجراح في ديوانه "فتيان دمشقيون في نزهة" الصادر حديثا عن "منشورات المتوسط" لعب دور الساحر الذي يعرف كل تلك الأسماء الدمشقية الأصلية. فذلك الغوص في التواريخ والأساطير المتوسطية، الذي يعتمده نهجا، يفجر الحاضر ويكثفه ويصله بكل ذلك التاريخ في حركة دائرية، يمكن النظر إليها بوصفها علامة على سيرورة دائمة لا تنقطع.

يحضر الحدث السوري الجاري أو ما يحرص الجراح على أن يسميه في منشوراته على صفحات التواصل الاجتماعي بالهولوكوست السوري أو المحرقة السورية، في تلك الحركة الدائمة للتاريخ والرموز، خاليا من المأساة بقدر ما هو مشبع بها. لكنه لا يترك هول الحاضر المر يشكل المشهد السوري ويقوله أو أن يكون خبرا ختاميا عنه، بل هناك سيرة متواصلة لا يحتل فيها موقع الصدارة ولا يؤثر على جريانها المستمر بل يطفو على سطحها.

تحضر شخصية الصبي في أكثر من مكان مرتدية صفات الرائي والبصير والدليل والمنشد

يعلن في مقطع من قصيدة "جنازة قوس قزح":

"أذكّرك بأسمائك،

يا دمشق..

لعلّي أهزّ رقاد من دفنوا تحت تلك الأسماء

وذهبوا

عميقا في الأرض..

لأراهم وهم يرفعون التراب عن قاماتهم،

ويخرجون

باللّآلئ والأصوات،

وفي جنازة قوس قزح يطوفون بك الأرضين

وعلى وجوههم وراحاتهم أسماؤك القتيلة".

إنه العارف بالأسماء وحين ينادي المدينة وأبناءها الراحلين بها يسقط الموت.

النزهة واللهو

 يتجلى العنوان اللاهي والقاسي للديوان، الذي يحيل على رمزية الأمان والنزهات كوصف للأحوال السورية الصلبة التي لا تستطيع مجزرة أن تخترقها. اللافت أن التركيب العام لقصائد الكتاب ينشئ لعبة تجاور بين المأساة والسخرية واللهو، مطلقا بنية إيمانية بانتصار يتحقق عبر اللعب ويكتمل في جو من التنزه في ذات دمشقية متوسطية، لطالما كانت تحمل روح العام وتحرس فنونه وقيمه وتبني جماليته وأفكاره.

يعطي نوري الجراح اللعب مساحة كبيرة وتكوينية في متن نص شعري يبدو لناحية الأسلوب طافحا بالملحمية والنشيدية، منشئا بذلك مجالا ساخرا ومتحديا. وتحضر شخصية الصبي في أكثر من مكان مرتدية صفات الرائي والبصير والدليل والمنشد، فهو من يحرك الفعل ويشهد عليه، والروح التي يبثها حضوره تفكك صرامة الغزو والاحتلال وهيبات الجيوش وسطوة المجازر.

يخلق الصبي فعل تحد ولعب يكسر الهمجية ويحرم المجزرة موضوعها وعناوينها ومادتها، ويغيّر كذلك طبيعة المكان والأحداث. في حضوره ومن خلال الحالة التي ينشرها يخرج المكان من لحظة القتل والدمار ليستقبل أحوالا مغايرة تمجّد اللعب والتنزه. في قصيدة "وصول البرابرة" التي يهديها إلى "طرواديي العصر" تخلق المدينة حربها الخاصة ضد البرابرة بحرمانهم من ممارسة ذاتهم التي تتشكل من مادة القتل والخراب.

تشرّع أبوابها لهم وتتركهم يدخلون إلى مدينة فارغة لا مجال فيها لممارسة بربريتهم، ليضع الجو كما تصفه قصيدة "الصبي" في متن المشهد المشحون بمجزرة محتملة ليست سوى النقيض التام لما يمثله من لهو. يصبح ممثلا لقوة المدينة الساكنة واستراتيجيتها الدفاعية القائمة على تعرية البرابرة من بربريتهم والسخرية منهم:

"النسائم تلهو بأطراف الستائر

وفي آخر الزقاق صبيّ صغير يلهو بعجلة.

الخيل راحت تمشي بخيلاء، مباهية بأعرافها، وبوقع سنابكها على

الصمت".

والصبي نفسه يتسيد مشهد انكسار البرابرة الختامي واعترافهم بأن المدينة هزمتهم. "في آخر الزقاق، ومن الأعلى، أفلت الصبيّ العجلة

وتركها تتدحرج..

جهة

الخيل

إذ ذاك نفخ حامل البوق: نحن البرابرة لم نعد برابرة!".

يدفع الحدث السوري بواقعه إلى الهامش ليحل مكانه متن من الأساطير الذائبة في معنى يستجيب لمغازي التاريخ

ومن هذا المجال ينشأ البعد التعريفي الذي يحرص الشاعر على نسب المكان إليه. إنه  المكان الذي لا يعرف مسالكه ودروبه وقصصه سوى أهله الذين يسكنون في حالة من الفتوة والصبا الدائمين، يبنون معه علاقة اللهو والتنزة لأنه المألوف والحميم والخاص والتاريخي وحامل الوجود والمعنى.

الأسطورة والتاريخ والراهن

يسيطر على قصائد الديوان المزاج الأسطوري ويشمل حتى القصائد التي لا تنطوي على إحالة أسطورية مباشرة. يتجه كل ذلك الزخم نحو مخاطبة الحاضر من دون الإقامة فيه.

يدفع الحدث السوري بواقعه إلى الهامش ليحل مكانه متن من الأساطير الذائبة في معنى يستجيب لمغازي التاريخ وسطوة دلالاته والبنى الروحية والفكرية التي أسّست لذلك الوعي بالحضور الدائم لمفاهيم البناء والمراكمة والاستمرار في صناعة الحياة والأمل والحضارة. ويختار الشاعر في سبيل تمكين نظام الدلالات الذي يدافع عنه نسقا لا يحضر فيه بوصفه الرائي أو الراوي أو صاحب الكلام والمعنى بل يحضر في هيئة الشاهد، مقدما نفسه ساكنا داخل حالة وموحيا بأن النص الشعري ينبثق من داخلها، ولعلّها من المرات القليلة التي نعثر فيها على شاعر عربي يقرر الدخول في دور الصامت والمندهش ومتلقي الأحوال وليس الصانع والملهم والمعلم والرائي.

يولّد الشاعر بالصمت مسارات تكثيف وإيمان، إذ أن الامتناع عن الكلام يشحن ما يقال لاحقا بالحدود القصوى لإمكاناته فيخرج عن التوظيفات التقليدية والمباشرة فلا يعود إخبارا وسردا بل رؤيا. الشعر هنا هو ما يصيبه وما يخترقه وليس ما يصنعه إنه من يستقبل البشارات الوعود ويخبر عنها.

في مقطع من قصيدة "رؤيا الهارب من الطغيان" تتجلى تلك الحالة:

"وفي سهم آخر من الرحلة

استيقظت ووجدت دليلي وقد انقلب واقفا وصار شجرة.

كيف لي أن أخطو الآن؟

كيف لي أن أنفكّ وأروم الـ"هناك"؟".

ذلك الهارب من الطغيان يسافر في رحلة داخلية فيعثر على علامات كثيرة تقوده إلى النجاة  على الرغم من الحيرة والتشرد.

من معاني السهم وفق المعاجم اللغوية ما يفوز به الظافر في المسير، والدليل الذي تحول إلى شجرة صار وجودا صامتا ثابتا في المكان ومغروسا فيه ومعلما من معالمه وحامل رؤيا تفتح للهارب باب البشارات والوعد بأن يكون العائد والمقيم.

قد ينجح الطغيان في تحطيم الأسوار والدخول إلى المدينة واحتلالها ولكنه لن ينجح في السطو على معناها ومصادرة روحها، كما أنه مهما طال يبقى لحظويا وعابرا فهو لا يصنع أصلا بل يحاول تخريب مسار وتعطيل سيرورات منتظمة ومتكاملة، وبذلك فإن ما يواجهه ليس حاضر المدينة وواقعها بل تاريخها وفكرتها وامتداداتها في الأساطير والرموز.

وفي إطار صناعة تشابك بين التاريخ والأسطورة والحاضر، يبرز استحضار الشخصيات التاريخية بوصفها أساطير والتعامل مع الأساطير بوصفها تاريخا، وربط البناء الرمزي الناشئ عن عملية التوحيد هذه بالحاضر عبر مفهوم الانشداد الدائم إلى الأصل.

تحضر في هذا السياق شخصية أبولودور الدمشقي المعماري الشهير الذي يعد من أهم بناة الجسور في الإمبراطورية الرومانية، لتكثف فكرة التواصل الحضاري وبناء العالم انطلاقا من المجال الدمشقي، وبذلك تدخل في الأسطوري وتصبح القرين الموازي لشخصية قدموس ناشر الأبجدية في الغرب والذي يعني اسمه الطليعي.

اللغة وجودا

يؤمن الشاعر بأن الحروب والانتصارات والغزو لا تحقق أهدافها في ساحات المعارك بل في بنى اللغة، فلا يمكن لأي مشروع تسلطي أن ينجح في فرض سطوته ما لم يمتلك لغة المكان ويصبح صاحبها والناطق باسمها. ومن هنا فإن البناء الأسلوبي اللغوي الصارم والمتين يحمل مسؤولية الحفاظ على الجغرافيا والدفاع عنها وتأكيد أن لغة المكان لا تزال قادرة على طرد الدخلاء والغرباء.

ويشي الإحكام اللغوي والأسلوبي بدلالة حربية إذا صح التعبير، فالغزاة لا يعبرون من البوابات المحطمة والقلاع المهدمة بقدر ما يعبرون من ثقوب الكيانات اللغوية. انطلاقا من هذا الإيمان يبني الجرّاح عالمه اللغوي المتماسك والخالي من الثقوب، بحيث لا يمكن أن تعبر لغة البرابرة وأن تحاول أن تصطنع لنفسها نسبا يربطها بالمكان السوري ويشرعن حضورها فيه.

ومن خلال هذا المنهج، يطلق رسائل تتعلق بضرورة أن تكون لغة الشعر العربي الحديث متصلة بالمكان وأصوله ودالة عليه وعلى كل أنماط علاقاته والتواريخ التي نشأ منها والمؤثرات التي صنعته والتي من شأنها أن تخلق شعرا عربيا متوسطيا ينتمي إلى ذاته وإلى صاحبه بقدر انتمائه إلى العالم، ومن ناحية أخرى يرى في فقد اللغة عنوان هزيمة نهائية لا قيامة بعدها.

لا يمكن لأي مشروع تسلطي أن ينجح في فرض سطوته ما لم يمتلك لغة المكان ويصبح صاحبها والناطق باسمها

تفتح توظيفات ثنائية صراع الأصيل وصاحب المكان والغريب والبربري، المعركة باللغة. يقول مقطع من قصيدة "فتيان من دورا أوروبوس هاربون من فيلق ساساني في صيدون":

"لم تكن بين الساسانّيّ والبحر لغة، ولا بين الساسانّي والسماء.

وفي هبوب السخام على النوافذ والأبواب المحترقة،

رأينا الحروف الآراميّة، والحروف الإغريقيّة، التي خطها السّوريوّن

بالأزاميل على الحجر

تتفكّك..

والصمت يطوف بالمصائر والأوهام.

لم تكن للساسانيّين لغة لنقرأ أفكارهم،

كنّا فتية في عهدة السيف".

يلاحظ وصف الغازي بصيغة المفرد الدالة على القلة ما يجعله أسيرا لواحدية الملامح والصفات لا يستطيع الخروج من فعل التدمير الذي يمارسه والذي بات عنوانا لهويته، وتاليا فإنه كائن الضيق والجمود والانغلاق. وحين يذكره بصيغة الجمع، يكون الأمر في معرض نفي امتلاكه اللغة أي لغة في  إطار حيلة هجائية تراكم معاني الضآلة وتكثفها.

في الجهة المقابلة وعلى الرغم من أن أهل البلاد يقع عليهم فعل الغزو، إلا أن ذلك لا يمنعهم من امتلاك صفات الكثرة كأصل يحافظ على معناه. فالقصيدة تخاطبهم  بصيغة الجمع كوصف جماعي لأفعالهم وما يصدر عنهم من نتاج حضاري، وهكذا يكون الساساني الغازي الواحد محاصرا بالسوريين الكثر الذين جاء ليحتلهم.

تشرح مفارقات القلة والكثرة في هذا المقطع علاقة اللغة بالحق في المكان وبأن الغازي لا بد أن يبقى خارجه، لأن جسور اللغة التي تسمح له بالعبور إليه غير موجودة في الأساس، فلا شيء يربطه ببحره ولا بسمائه بكل ما ينطويان عليه من رمزيات مادية وروحية. إنه صنو الخارج المطلق إذا صح التعبير، والذي لا يستطيع العبور إلى الداخل. وسيط المجزرة الذي اختاره شكلا للعلاقة مع المكان يضيء على المنجز اللغوي السوري الذي يبقى مشعا على الرغم من كل ما يتعرض له.

تتفكك الحروف وتنجرح ولكنها لا تزول لأنها تحمل فكرة الوجود الإنساني برمته، ولأن الشاعر إذ يستحضرها ويدافع عن أصولها ويسمّي الأشياء بأسمائها، فإنه يستعيدها وينتصر بها، ويهديها إلى أهلها وأصحابها لتكون ملاذهم في رحلة المنافي والتشرد.

font change

مقالات ذات صلة