ومن هذا المجال ينشأ البعد التعريفي الذي يحرص الشاعر على نسب المكان إليه. إنه المكان الذي لا يعرف مسالكه ودروبه وقصصه سوى أهله الذين يسكنون في حالة من الفتوة والصبا الدائمين، يبنون معه علاقة اللهو والتنزة لأنه المألوف والحميم والخاص والتاريخي وحامل الوجود والمعنى.
الأسطورة والتاريخ والراهن
يسيطر على قصائد الديوان المزاج الأسطوري ويشمل حتى القصائد التي لا تنطوي على إحالة أسطورية مباشرة. يتجه كل ذلك الزخم نحو مخاطبة الحاضر من دون الإقامة فيه.
يدفع الحدث السوري بواقعه إلى الهامش ليحل مكانه متن من الأساطير الذائبة في معنى يستجيب لمغازي التاريخ وسطوة دلالاته والبنى الروحية والفكرية التي أسّست لذلك الوعي بالحضور الدائم لمفاهيم البناء والمراكمة والاستمرار في صناعة الحياة والأمل والحضارة. ويختار الشاعر في سبيل تمكين نظام الدلالات الذي يدافع عنه نسقا لا يحضر فيه بوصفه الرائي أو الراوي أو صاحب الكلام والمعنى بل يحضر في هيئة الشاهد، مقدما نفسه ساكنا داخل حالة وموحيا بأن النص الشعري ينبثق من داخلها، ولعلّها من المرات القليلة التي نعثر فيها على شاعر عربي يقرر الدخول في دور الصامت والمندهش ومتلقي الأحوال وليس الصانع والملهم والمعلم والرائي.
يولّد الشاعر بالصمت مسارات تكثيف وإيمان، إذ أن الامتناع عن الكلام يشحن ما يقال لاحقا بالحدود القصوى لإمكاناته فيخرج عن التوظيفات التقليدية والمباشرة فلا يعود إخبارا وسردا بل رؤيا. الشعر هنا هو ما يصيبه وما يخترقه وليس ما يصنعه إنه من يستقبل البشارات الوعود ويخبر عنها.
في مقطع من قصيدة "رؤيا الهارب من الطغيان" تتجلى تلك الحالة:
"وفي سهم آخر من الرحلة
استيقظت ووجدت دليلي وقد انقلب واقفا وصار شجرة.
كيف لي أن أخطو الآن؟
كيف لي أن أنفكّ وأروم الـ"هناك"؟".
ذلك الهارب من الطغيان يسافر في رحلة داخلية فيعثر على علامات كثيرة تقوده إلى النجاة على الرغم من الحيرة والتشرد.
من معاني السهم وفق المعاجم اللغوية ما يفوز به الظافر في المسير، والدليل الذي تحول إلى شجرة صار وجودا صامتا ثابتا في المكان ومغروسا فيه ومعلما من معالمه وحامل رؤيا تفتح للهارب باب البشارات والوعد بأن يكون العائد والمقيم.
قد ينجح الطغيان في تحطيم الأسوار والدخول إلى المدينة واحتلالها ولكنه لن ينجح في السطو على معناها ومصادرة روحها، كما أنه مهما طال يبقى لحظويا وعابرا فهو لا يصنع أصلا بل يحاول تخريب مسار وتعطيل سيرورات منتظمة ومتكاملة، وبذلك فإن ما يواجهه ليس حاضر المدينة وواقعها بل تاريخها وفكرتها وامتداداتها في الأساطير والرموز.
وفي إطار صناعة تشابك بين التاريخ والأسطورة والحاضر، يبرز استحضار الشخصيات التاريخية بوصفها أساطير والتعامل مع الأساطير بوصفها تاريخا، وربط البناء الرمزي الناشئ عن عملية التوحيد هذه بالحاضر عبر مفهوم الانشداد الدائم إلى الأصل.
تحضر في هذا السياق شخصية أبولودور الدمشقي المعماري الشهير الذي يعد من أهم بناة الجسور في الإمبراطورية الرومانية، لتكثف فكرة التواصل الحضاري وبناء العالم انطلاقا من المجال الدمشقي، وبذلك تدخل في الأسطوري وتصبح القرين الموازي لشخصية قدموس ناشر الأبجدية في الغرب والذي يعني اسمه الطليعي.
اللغة وجودا
يؤمن الشاعر بأن الحروب والانتصارات والغزو لا تحقق أهدافها في ساحات المعارك بل في بنى اللغة، فلا يمكن لأي مشروع تسلطي أن ينجح في فرض سطوته ما لم يمتلك لغة المكان ويصبح صاحبها والناطق باسمها. ومن هنا فإن البناء الأسلوبي اللغوي الصارم والمتين يحمل مسؤولية الحفاظ على الجغرافيا والدفاع عنها وتأكيد أن لغة المكان لا تزال قادرة على طرد الدخلاء والغرباء.
ويشي الإحكام اللغوي والأسلوبي بدلالة حربية إذا صح التعبير، فالغزاة لا يعبرون من البوابات المحطمة والقلاع المهدمة بقدر ما يعبرون من ثقوب الكيانات اللغوية. انطلاقا من هذا الإيمان يبني الجرّاح عالمه اللغوي المتماسك والخالي من الثقوب، بحيث لا يمكن أن تعبر لغة البرابرة وأن تحاول أن تصطنع لنفسها نسبا يربطها بالمكان السوري ويشرعن حضورها فيه.
ومن خلال هذا المنهج، يطلق رسائل تتعلق بضرورة أن تكون لغة الشعر العربي الحديث متصلة بالمكان وأصوله ودالة عليه وعلى كل أنماط علاقاته والتواريخ التي نشأ منها والمؤثرات التي صنعته والتي من شأنها أن تخلق شعرا عربيا متوسطيا ينتمي إلى ذاته وإلى صاحبه بقدر انتمائه إلى العالم، ومن ناحية أخرى يرى في فقد اللغة عنوان هزيمة نهائية لا قيامة بعدها.