بعثة الأمم المتحدة في العراق... "كبش فداء" بين أميركا وإيران
يعكس إغلاقها جهد السوداني لتحقيق التوازن بين الفصائل المتنافسة في حكومته
بعثة الأمم المتحدة في العراق... "كبش فداء" بين أميركا وإيران
في أواخر شهر مايو/أيار الماضي، طلب رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني رسميا من الأمم المتحدة إغلاق بعثة الأمم المتحدة إلى العراق (يونامي-UNAMI) بحلول نهاية عام 2025. ووافق مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بالإجماع على الطلب، على الرغم من اختلاف الجدول الزمني الذي اقترحه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش عن الجدول العراقي.
وقد يبدو هذا التطور- ظاهريا- مثيرا للقلق، نظرا لوجود جوانب مهمة لـ"يونامي" لم يكتمل إنجازها، إلا أنه يعكس الجهد الكبير الذي يبذله السوداني لتحقيق التوازن الدقيق بين الفصائل المتنافسة في حكومته. وفي العموم، تقوم السياسة العراقية على توازن حذر بين العناصر الموالية للولايات المتحدة وتلك الموالية لإيران. وفي ظل الدعوات التي تطلقها شخصيات محسوبة على إيران لإخراج القوات الأميركية من العراق، يرى السوداني على الأرجح في إغلاق يونامي انتصارا يمكنه الاستفادة منه في جهوده.
إن الدور السياسي لـ"يونامي" في العراق أصغر وأقل تأثيرا من دور عملية "العزم الصلب" التي تقودها الولايات المتحدة لمحاربة فلول تنظيم "داعش" الإرهابي، الذي لا يزال العراقيون يحتفظون بذكريات مريرة عن فترة سيطرته على مساحات واسعة من البلاد. ولذلك، فإن دعوة رئيس الوزراء لإغلاق البعثة تسمح له بأن يقول إنه يعارض بالفعل الوجود الغربي، فيخفف من غلواء الإطار التنسيقي الشيعي في العراق، ويؤجل في الوقت عينه القضية الأكثر إثارة للجدل المتمثلة في الانسحاب الأميركي، متجنبا بالتالي إغضاب واشنطن. ومن المرجح أن تتفهم الولايات المتحدة إعلان إغلاق بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي) باعتباره ضرورة للسوداني لحفظ ماء الوجه، وتدعم أي شيء لا يضر فعليا بأنشطة الولايات المتحدة المستمرة ضد "داعش" في العراق.
وبالنظر إلى الوضع الحالي وما ينبغي أن تحققه البعثة من تقدم في مجالات مهمة، فإن طلب بغداد وموافقة مجلس الأمن اللاحقة تشير إلى تفهم واسع للرقصة الدقيقة التي يحاول السوداني أن يؤديها بين الفصائل المتنافسة داخل حكومته. فالسياسة العراقية تتميز بتوازن مدروس بعناية بين مكوناتها التي لها علاقات استراتيجية أوثق مع الولايات المتحدة، وبين تلك الأوثق علاقة مع إيران.
وفقا للأمم المتحدة، يعمل مع البعثة حاليا طاقم من 648 موظفا (251 موظفا دوليا و397 موظفا عراقيا). كما تضم البعثة أيضا 245 جنديا، جميعهم من نيبال وفيجي، لأغراض أمنية
وفي مواجهة الدعوات المستمرة التي تطلقها هذه الشخصيات المتحالفة مع إيران، لإخراج القوات الأميركية من الأراضي العراقية، من المرجح أن ينظر السوداني إلى دعوته بعثة الأمم المتحدة لمغادرة العراق كانتصار يمكن التحكم فيه. ومن المرجح أن يُنظر إلى الأثر السياسي للبعثة على أنه أصغر وأقل تأثيرا من عملية "العزم الصلب" التي تقودها الولايات المتحدة لمحاربة فلول تنظيم "داعش"، الذي لا يزال العراق يحتفظ بذكريات قاسية عنه.
وتسمح هذه الدعوة لرئيس الوزراء بتعزيز موقفه بمعارضة الوجود الغربي، وأن يسجل هو و"إطار التنسيق الشيعي" في العراق نقاط فوز حاسمة، كما تسمح له في الوقت نفسه بتأجيل فكرة الانسحاب الأميركي وقذفها إلى المستقبل. يضاف إلى ذلك أن هذه الخطوة لا تثير غضب واشنطن. ومن المرجح أن تعتبر الولايات المتحدة أن إعلان إغلاق بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق بمثابة محاولة علنية ضرورية للسوداني لحفظ ماء الوجه، وهي تؤيد على الورق أي شيء لا يضر بأنشطة الولايات المتحدة المستمرة ضد "داعش" في العراق.
بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق
دخلت هذه البعثة العراق عام 2003 بعد الغزو الأميركي، بناء على طلب الحكومة العراقية. وبعد أن ركزت في الأساس على إعادة إعمار عراق ما بعد صدام حسين، توسع نطاق عملها في عام 2007، في مواجهة العنف الطائفي المتزايد والهجمات المناهضة للتحالف، لتنخرط مع بغداد على نحو مباشر أكثر في المجال السياسي والاقتصادي والإنساني. وبالتالي فإن للبعثة مهمة واسعة، بدءا من دعم العمليات الديمقراطية إلى خلق حوار إقليمي وتعزيز حقوق الإنسان. كما تلعب بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق أيضا دورا في العمل كوسيط بين 22 وكالة مساعدات إنسانية وإنمائية تابعة للأمم المتحدة والشركاء (سواء في الحكومة العراقية أو في المجتمع المدني) الذين يستخدمون هذه المساعدات.
ووفقا للأمم المتحدة، يعمل مع البعثة حاليا طاقم من 648 موظفا (251 موظفا دوليا و397 موظفا عراقيا). كما تضم البعثة أيضا 245 جنديا، جميعهم من نيبال وفيجي، لأغراض أمنية.
يستخدم السوداني إغلاق البعثة كجائزة ترضية يقدمها للمكونات المناهضة للولايات المتحدة داخل حكومته
وعند تجديد تفويض بعثة "يونامي" في مايو/أيار 2023، دعا قرار مجلس الأمن رقم 2682 الأمين العام إلى إجراء مراجعة استراتيجية مستقلة للبعثة، والعمل مع بغداد ووكالات الأمم المتحدة الأخرى العاملة في البلاد وأصحاب المصلحة الآخرين. وكان الهدف من هذه المراجعة الاطلاع على مهمة البعثة وما أحرزته من تقدم في إنجاز مهمتها. ومن المهم الإشارة إلى أن الأمين العام وافق في هذا التقرير على أن يكون موعد إغلاق البعثة في مايو 2026، ولكنه ربط هذا التاريخ بجدول زمني يتضمن مؤشرات مبنية على الأداء، وذلك لطمأنة الأقليات في العراق بأن تقدما مقبولا نحو الديمقراطية قد تحقق قبل إغلاق البعثة.
وعبر السوداني عن استيائه من المراجعة، في رسالته إلى الأمين العام في مايو 2023، قائلا إن العملية نفسها لم تكن كما تخيلها عندما طلب من مجلس الأمن الدولي النظر في تقليص ولاية البعثة. وشدد السوداني كذلك على أن يقتصر عمل البعثة على "الإصلاح الاقتصادي وتقديم الخدمات والتنمية المستدامة وتغير المناخ وجوانب أخرى من التنمية"، إلى حين إغلاقها في ديسمبر/كانون الأول 2025 الذي ترغب فيه حكومته.
وقد وافق مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بعد ذلك على أن يكون موعد الإغلاق في ديسمبر 2025، متقيدا بالتالي بالتزام الأمم المتحدة بأن لا تعمل البعثات إلا بدعوة من البلد المضيف فقط. وسينضم العراق الآن إلى قائمة الدول التي طلبت مؤخرا إغلاق بعثات الأمم المتحدة لديها أو أغلقت بعثاتها التابعة للأمم المتحدة، كالصومال وجمهورية الكونغو الديمقراطية، ولحقتهما مالي في العام الماضي. وعلى الرغم من الاختلافات الكبيرة في أوضاع هذه البلدان ودينامياتها الحالية، فإنه لا يسعنا إلا أن نعقد مقارنة بينها. فإغلاق بعثات الأمم المتحدة يستخدم أحيانا ككبش فداء يلقى عليه اللوم لعدم تحقيق تحسن ملحوظ في الأمن المحلي (كما هو الحال في الصومال وجمهورية الكونغو الديمقراطية ومالي) و/أو لإرضاء مكونات سياسية داخل الحكومات الوطنية (كما هو الحال في العراق).
وفي حالة العراق، يستخدم السوداني إغلاق البعثة كجائزة ترضية يقدمها للمكونات المناهضة للولايات المتحدة داخل حكومته، ويستخدمها في الوقت نفسه لتأخير القرار الأكثر إثارة للجدال، الذي يقضي بفرض انسحاب كبير للقوات الأميركية من العراق.
السوداني في الوسط
تولى السوداني رئاسة الوزراء في العراق في أكتوبر/تشرين الأول 2022، بدعم من "الإطار التنسيقي" الشيعي المتحالف مع إيران، وبعد صراع سياسي بين الأحزاب السياسية المدعومة من إيران والأحزاب السياسية الوطنية، استمر عاما بعد انتخابات أكتوبر 2021. وكان على السوداني وهو في السلطة أن يناور بحذر في مسألة علاقة العراق المعقدة مع الولايات المتحدة والمؤسسات ذات التوجه الغربي مثل الأمم المتحدة وحلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي (الأخيران لديهما بعثات نشطة في العراق)، والحفاظ على السلام مع القوى المتحالفة مع إيران التي لها الفضل الأول في وصوله إلى السلطة.
يتعرض السوداني منذ توليه منصبه للضغط لكي يتفاوض على إنهاء وجود القوات الأميركية، ومن هنا جاء إنشاء اللجنة العسكرية العليا
ولطالما شكلت هذه الرقصة تحديا خاصا للسوداني، نظرا لوجود وكلاء لإيران داخل الحكومة العراقية نفسها، سواء داخل قواتها المسلحة تحت مظلة قوات "الحشد الشعبي" أو داخل البرلمان ضمن إطار التنسيق الشيعي. وعند هذه الشخصيات والأحزاب السياسية المتحالفة مع إيران، ما من مشكلة أكبر من وجود القوات الأميركية داخل العراق، وهو الضغط الرئيس الذي تعرضت له رئاسة السوداني للوزراء على نحو مميز. ولم يساعد التصعيد بين الولايات المتحدة والميليشيات المتحالفة مع إيران في العراق في تحسين الأمور. فمنذ أكتوبر، انخرط وكلاء إيران والقوات الأميركية في ضربات متبادلة بعد اندلاع الحرب في غزة، مما وضع الحكومة العراقية (والشعب العراقي) في موقف غير مريح وعرضها للخطر. وهو الموقف الذي أجج دعوات المؤيدين لإيران والقوميين لطرد الوجود العسكري الأميركي من البلاد.
وهكذا يتعرض السوداني منذ توليه منصبه للضغط لكي يتفاوض على إنهاء وجود القوات الأميركية، ومن هنا جاء إنشاء اللجنة العسكرية العليا وإلحاحه على ذكر هذا الموضوع مع الرئيس بايدن خلال زيارته الأولى إلى واشنطن في أبريل/نيسان من هذا العام. وقد دعا علنا إلى عصر جديد تكون فيه العلاقات بين الولايات المتحدة والعراق أكثر ندّية في طبيعتها وأكثر احتراما لسيادة العراق مع العمل على تنويع العلاقات أبعد من مسألة الأمن.
أما في السر، فكان للسوداني لهجة مختلفة مع صناع القرار في الولايات المتحدة. فهو يدرك الدور الذي تؤديه الولايات المتحدة في دعم الجيش العراقي عبر عملية "العزم الصلب"، ويدرك افتقار قوات الأمن العراقية وجهاز مكافحة الإرهاب وحدهما إلى القدرة على التعامل مع عمليات مكافحة الإرهاب ضد "داعش". والأهم من ذلك، أن السوداني لا يريد خسارة ملايين الدولارات من المساعدات (6.9 مليون دولار في الفترة من أكتوبر 2023 إلى ديسمبر 2023 فقط) التي تذهب إلى الحكومة الفيدرالية العراقية بسبب عملية "العزم الصلب". وبالتالي، فإن طرد بعثة الأمم المتحدة يمثل فرصة لاستعراض سيادة العراق وإزالة ما تراه بعض الشخصيات المتحالفة مع إيران نفوذا غربيا، مع عدم التخلي عن المطلب الرئيس.
ماذا بعد خروج "يونامي"
في الخطاب الأخير أمام مجلس الأمن الدولي، أشارت جينين هينيس بلاسخارت، الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة في العراق، إلى المشكلات المستمرة التي لم تتمكن بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق "يونامي" من حلها، مثل وجود الجماعات المسلحة غير القانونية في العراق وعدم إجراء انتخابات في حكومة إقليم كردستان.
ولا تزال القضية السابقة تعصف بالعلاقة بين بغداد وواشنطن. فقد تعرضت القوات الأميركية تحت عملية "العزم الصلب" لإطلاق نار مستمر لأكثر من 150 صاروخا باليستيا ومقذوفا وضربات بالمسيرات بين أكتوبر 2023 وفبراير 2024 من الميليشيات المتحالفة مع إيران والمنضوية تحت اسم المقاومة الإسلامية في العراق. وأثبتت بغداد عدم قدرتها على السيطرة بشكل فعال على هذه الجماعات، وهو ما يجعل مستقبل العراق في مرحلة ما بعد بعثة الأمم المتحدة- وربما بعد القوات الأميركية- أكثر إثارة للقلق على الأرض.
وترتبط هذه القضية، إلى حد معين بحكومة إقليم كردستان. وقد أعربت جميع الأحزاب السياسية في حكومة إقليم كردستان عن معارضتها لإنهاء عمل بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق. ومن المرجح أن يخشى الأكراد والسنة على حد سواء من أن انتهاء عمل البعثة بالحوار السياسي لن يؤدي إلا إلى تعزيز الهيمنة الشيعية في العراق، لمساعدة مختلف الميليشيات المتحالفة مع إيران. واقتراب انتهاء عمل البعثة، وتداعياته المحتملة، أدى إلى توحيد حزبين متنازعين هما "الحزب الديمقراطي الكردستاني"، و"الاتحاد الوطني الكردستاني" على الرغم من أجواء التوتر بينهما بسبب الانتخابات المقبلة لحكومة إقليم كردستان في سبتمبر/أيلول المقبل.
من المرجح أن يكون هناك المزيد من الضغط لفرض انسحاب الجيش الأميركي من مهمته في عملية "العزم الصلب"
ومن المرجح أن تزن الولايات المتحدة خروج بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق بعناية، وأن تتفحص الدروس التي يمكن استخلاصها منه فور حدوثه، وبعد انتهائه. ومن المؤكد أن واشنطن تشعر بالقلق على مستقبل العراق ما بعد البعثة للأسباب التي أثارتها الممثلة الخاصة ولأسباب أخرى. لكن من المرجح أنها اختارت دعم نهاية ولاية البعثة في عام 2025، وأن تمضي إلى حد رعاية قرار الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش لإعداد "خطة انتقالية وتصفية" بمشاركة الحكومة العراقية، وذلك لعدة أسباب، أولها أن الولايات المتحدة أبدت باستمرار دعمها لبعثات الأمم المتحدة التي تغادر البلدان التي لم تعد تريدها، حتى لو كان ذلك يتعارض مع التقدير الاستراتيجي. لأن أي مسار عمل يتعارض مع ذلك سيمنع الدول من دعوة بعثات الأمم المتحدة في المقام الأول. وثانيها أن الولايات المتحدة ترى ذلك الأمر على حقيقته: فوز يمكن للسوداني أن يقدمه لقاعدته المتحالفة مع إيران ولا يأتي على حساب القوات الأميركية المشاركة في عملية "العزم الصلب".
وفي هذه الأثناء، ما سيحدث الآن للبعثة وللعراق بشكل عام سيكون حاسما لمستقبل الولايات المتحدة في البلاد. فإذا كانت بغداد غير قادرة على القيام بمهام البعثة على نحو فعال، وهو ما لا يبدو أنها تمتلك القدرة على الاضطلاع به في الوقت الحالي، فمن المرجح أن يكون هناك المزيد من الضغط لفرض انسحاب الجيش الأميركي من مهمته في عملية "العزم الصلب". وبينما يعمل خروج البعثة على إبقاء هذه الأصوات المتحالفة مع إيران بعيدة وتحت السيطرة لبعض الوقت، فإن السوداني ببساطة يؤجل المشكلة بقذفها إلى الأمام. وستكون هذه معضلة مستقبلية ينبغي على حكومته- كما كان على حكومة سلفه– أن تحلها.