نباح كلاب وبكاء أطفال وصراخ نساء...أصوات مسيرات إسرائيلية تُطارد الغزيين

تحقيق لـ "المجلة" عن الحرب النفسية ضد أهل غزة

لينا جرادات
لينا جرادات

نباح كلاب وبكاء أطفال وصراخ نساء...أصوات مسيرات إسرائيلية تُطارد الغزيين

تعمد الجيش الإسرائيلي في حربه غير المسبوقة على قطاع غزة، استخدام كافة الأساليب المدمرة على المستوى الجسدي والاجتماعي والنفسي. فلم يكتف الجيش خلال عملياته العسكرية بحجم الدمار الذي أحدثه في المنازل والمباني السكنية والخدماتية وفي البنية التحتية، وقتل أكثر من 40 ألف غزي من مختلف الفئات والأعمار خلال عشرة أشهر، بل لجأ إلى استخدام واحدة من الأساليب النفسية المدمرة في عدد من المناطق داخل غزة.

وقد استخدم الجيش في حروبه السابقة على قطاع غزة الطائرات المسيرة الصغيرة دون طيار، ومنها طائرات الدرون وطائرات الكواد كابتر في عمليات الاستطلاع والاستكشاف، وحتى في عمليات القتل والاغتيال من خلال إطلاق القنابل والرصاص، لكن خلال الحرب الحالية ومنذ قرابة أربعة أشهر ماضية، ظهر استخدام جديد لتلك الطائرات عبر تزويدها بتقنيات مكبرات الصوت التي تصدر أصواتا متعددة ومرتفعة خلال ساعات الليل بين المنازل وخيام النازحين المأهولة بالمدنيين.

"نباح الكلاب، مواء القطط، صوت صرصور الليل، وأصوات بكاء الأطفال واستغاثة النساء"، كانت من أبرز الأصوات التي أطلقتها طائرات مسيرة صغيرة في مخيمات البريج والنصيرات وسط قطاع غزة، حيث يقع المخيمان على خط مواز مع محور نتساريم الذي يتخذه الجيش الإسرائيلي مركزا مهماً يفصل القطاع إلى نصفين شمالي وجنوبي. وفي مناطق شرق مدينتي رفح وخانيونس جنوب القطاع خلال عمليات التوغل البري بشكل كثيف، بحسب شهادات عدة استمعت لها "المجلة".

شروق العيلة البالغة من العمر 30 عاما، نازحة من مدينة غزة إلى خيمة في وسط القطاع، كانت وعائلتها في بداية نزوحهم مع اندلاع الحرب في أكتوبر/تشرين الأول 2023، قد انتقلوا إلى شقة سكنية بمدينة رفح أقصى الجنوب، لكن في بداية مايو/أيار الماضي، ومع كثافة الحديث عن اقتراب عملية برية عسكرية إسرائيلية على المدينة، حاصرتها طائرات كواد كابتر خلال ساعات الليل داخل المنزل "فجأة لقينا طيارات كواد كابتر على الشبابيك، سامعينها، شايفينها، وحتى شامين ريحة محركاتها من كتر ما هي قريبة".

لاحقت الطائرات كل من هم في المنزل من شباك إلى آخر، طيلة ثلاث ساعات متواصلة حتى أنهم اضطروا الى إغلاق الإضاءة وعدم استخدام هواتفهم حتى لا يصدر أي ضوء حتى لو كان خافتا. وتضيف: "اضطريت أروح الحمام، وأول ما ضويت ضو الحمام أجت على الشباك، طفيت الضو، لكن ضلتها واقفة لحد ما طلعت وتحركت للغرفة ورجعت وقفت على شباك الغرفة، كانت ليلة مرعبة".

في اليوم التالي، قررت العائلة النزوح وتغيير مكان وجودهم بعد استشعار خطر كبير قادم، واضطروا الى الانتقال إلى غرب مدينة دير البلح وسط القطاع، وفي خيمة... "قلنا الخيمة أفضل، لكن كمان هنا لاحقتنا أصوات الكواد كابتر، سواء صوت نباح الكلاب أو مواء القطط وبكاء الأطفال، الموضوع مرعب على الصعيد النفسي خاصة أن كل الأصوات بتيجي في ساعات ما بعد منتصف الليل".

الجميع في قطاع غزة أصبح يستشعر الخطر بمجرد سماع صوت اقتراب طائرات الكواد كابتر بغض النظر عن سبب وصولها. أشرف محمد (26 عاما) من سكان مخيم البريج، يقول إنه شاهد على استخدام الجيش الإسرائيلي لطائرات الكواد كابتر في عمليات القتل المباشر واستخدامها في عمليات الاستكشاف وتحديد إحداثيات المنازل وبالتحديد في المخيم الذي يقطنه منذ ولادته. ويضيف: "قبل أربعة أشهر تقريبا خلال توغل الجيش برا في البريج، بدأنا نشهد استخدامها في إصدار أصوات متعددة مثل نباح الكلاب وبكاء الأطفال واستغاثة النساء وبأصوات مرتفعة".

الجميع في قطاع غزة أصبح يستشعر الخطر بمجرد سماع صوت اقتراب طائرات الكواد كابتر بغض النظر عن سبب وصولها

ويشير أشرف إلى أن الجيش يتعمد استخدام الكواد كابتر في إصدار الأصوات بعد الثانية عشرة من منتصف الليل، حيث يكون الناس قد استكانوا داخل منازلهم وتوقفت الحركة "ساعات الليل أكتر ساعات مخيفة في الحرب، لهيك الناس تلتزم بيوتها أو خيامها في الغالب، إضافة إلى أن غالبية الأطفال بكونوا نيام بعد يوم طويل من أصوات القصف والانشغال في تعبئة المياه وغيرها من المهام اليومية المفروضة علينا بسبب الحرب".
ويوضح محمد أن تلك الأصوات التي تطلقها الطائرات التابعة للجيش الإسرائيلي، تعمل على استفزاز مشاعر المواطنين الغزيين... "احنا مجتمع متعاضد مترابط، يعني لما تسمع صوت طفل يبكي في نص الليل أو صوت نساء تصرخ وتستغيث، إجباري بدك تحمل حالك وتطلع للشارع أو تطلع من الشباك تشوف إيش في، ومين محتاج مساعدة، ولو كان في أي قصف أو إطلاق نار وفي ناس مصابة، الكل يطلع يجري يساعد حتى مع خطورة عتمة الليل".

أي بي ايه
مخيم للاجئين على شاطئ دير البلح جنوب غزة في 9 أغسطس

استغل الجيش الإسرائيلي تلك الميزات لدى المواطنين في إطار حربه النفسية المتوازية مع عمليات القتل والدمار وإجبارهم على النزوح وإخلاء منازلهم وأحيائهم وحتى في ساعات الليل، إما بشكل محدد لمنازل معينة تمهيدا لقصفها وإما لأحياء واسعة قبل البدء في التوغل العسكري الموسع، لكنه أيضا استغل كافة المزايا الخاصة بتلك الطائرات لاستخدامها بأكثر من شكل في الوقت ذاته، فمثلا مع إطلاق أصوات الاستغاثة يجبر المواطنون وحتى أفراد الفصائل الفلسطينية على التحرك ما يسمح له بمتابعتهم ومراقبتهم من خلال الطائرات الصغيرة ذاتها، بل وحتى أنه استخدمها لاستهداف كل مُتحرك يشك في أمره دون التحقق من هويته أو سبب تحركه.
يقول محمد: "عدة مرات الاحتلال أصدر أصوات بكاء الأطفال واستغاثة النساء، ومع تحرك الشبان في حواري المخيم ونزولهم للشارع للتأكد وفحص ما إذا كان هناك أمر جلل، تباغتهم طائرات كواد كابتر وتطلق عليهم إما قنابل صغيرة شديدة الانفجار تؤدي إلى مقتلهم، وإما تطلق رصاصها المتفجر الذي تسبب في بتر أطراف الكثير من شباب المخيم".
وبالتوازي مع استخدام الكواد كابتر وإصدارها للأصوات في مخيم البريج، استخدم الجيش الإسرائيلي ذلك أيضا في مخيم النصيرات المجاور له. يقول أسامة إبراهيم (36 عاما)، من النصيرات، إنه شاهد على استخدام الطائرات المسيرة في إصدار الأصوات. ويوضح: "أكثر صوت مستفز بالنسبة إلى صوت نباح الكلاب في الليل، من أشهر بنسمعهم، لدرجة أن الكلاب في الحارة بتصير ترد على نباحهم وبمتد الموضوع لأكثر من نصف ساعة لدرجة يكون الموضوع مزعج حد الاستفزاز".
تحدث عن أكثر من حادثة لإصدار أصوات مختلفة، مشيرا إلى أن الجيش تعمد في أكثر من مرة استفزاز السكان حتى أطلق النار عليهم بشكل مباشر في حال رصد أي تحركات وقتل الكثير من الشبان دون مبرر أو سبب منطقي ودون أن يشكل عليهم ذلك التحرك أي خطر حقيقي. وقال: "الجيش يحاربنا بكافة الطرق والوسائل ويقتل الجميع دون الحاجة إلى مبرر وادعاءات لتبرئة نفسه وجنوده من قتل المدنيين".
وفي العادة، يخاف الناس في قطاع غزة من الكلاب الضالة المنتشرة في الشوارع وذلك منذ ما قبل الحرب، لكن خلال الحرب الحالية تغير الأمر، تقول ميرهان عبد الحميد (29 عاما)، وهي نازحة من شمال القطاع إلى وسطه في المناطق الغربية: "أنا ما بحب الكلاب وخاصة كلاب الشوارع، لكن في الحرب ولأنا ساكنين في خيمة بالشارع، الموضوع صار كتير مؤذي، مثلا ممكن تلاقي كلب جاي ينام على باب الخيمة تبعتك بالليل، أو تلاقي الكلب يحاول يدخل لعندك بالخيمة، أنا بخاف منهم وبخاف من صوتهم".

يتعمد الجيش الإسرائيلي استخدام الكواد كابتر في إصدار الأصوات بعد الثانية عشرة من منتصف الليل، حيث يكون الناس قد استكانوا داخل منازلهم وتوقفت الحركة 

ومع الوقت وتكرار حادثة سماعهم للأصوات المختلفة، أصبح الأمر يستوجب التركيز والتدقيق بشكل أكبر للتمييز فيما إذا كانت تلك الأصوات حقيقية أو صادرة عن طائرات الجيش... "صحيح كنت ولا زلت بخاف من صوت الكلاب، لكن مع تكرار الموضوع واكتشافنا أنها أصوات صادرة من طائرات، صرنا بنركز بشكل أكبر، نباح الكلب الحقيقي يكون فيه درجة طبقات مختلفة من النباح، لكن النباح المسجل يكون عبارة عن تكرار لمقطع واحد صغير، كذلك استغاثة النساء وبكاء الأطفال، في كل مرة تكون الأصوات ذاتها وبشكل متكرر لذات المقطع، لذا أصبحنا نميزها".

أ ب
ساحة مدرسة تعرضت للقصف الإسرائيلي في مدينة غزة في 10 أغسطس

لكن هل تمييز الأصوات منع أو حدّ من التأثير النفسي لدى الغزيين؟ ولماذا صوت نباح الكلب يبقى الأكثر خطورة للبعض؟ تقول إيمان قديح (38 عاما) من سكان شرق مدينة خانيونس والتي اضطرت إلى النزوح من منزلها أكثر من خمس مرات بسبب التوغلات المتكررة للجيش الإسرائيلي بين الحين والآخر، أن أكثر ما تخافه هو صوت نباح الكلاب خاصة بعد التوغل البري الأول للجيش وانتشار الجثامين في الشوارع والتي نهشتها الكلاب الضالة... "الكلاب هنا صارت أكثر وحشية بعد ما أكلت أجساد البني آدمين، صرت أخاف من شراستهم واحنا ماشيين في الشارع بالنهار، كيف لما أسمع صوت نباحها بصوت مرتفع وقريب وبالليل؟".
بعد مرات عدة تأكدت قديح من إصدار طائرات الكواد كابتر لأصوات أكثرها صوت نباح الكلاب في منطقة سكنها، لكنها حتى بعدما أصبحت قادرة على التمييز، وبعد تأكدها من أنها ليست كلابا حقيقية فإنها لا زالت تخاف تلك الأصوات التي تشعرها باقتراب الخطر... "أنا بس أسمعها ومع إني متأكدة إنها أصوات مسجلة لكن بحس في مجموعة كلاب جاية تهجم علينا في البيت، ومش قادرة أتخلص من هاد الشعور والتفكير".

font change

مقالات ذات صلة