يطلق "حزب الله" عبر مقطع "عماد-4" الذي يصور منشأة عسكرية صاروخية متكاملة الأركان تحت الأرض جملة من الرسائل المتناقضة التي تنطوي على احتمالات الردع والتصعيد في آن واحد.
بدت المنشأة في الفيديو بمثابة مدينة قتالية حديثة تضم أجهزة كمبيوتر وتتمتع بإضاءة منظمة وتشمل مساحة واسعة يمكن أن تتحرك فيها الشاحنات والسيارات بسهولة، كما تتميز بامتداد طويل يسمح بتوالي ظهور الشاحنات المرقمة ومنصات الصواريخ بشكل حرص صناع المقطع على شحنه بدلالات الكثرة المفتوحة وغير القابلة للإحصاء.
العنوان العام "جبالنا خزائننا" والعلامة الرقمية 4 يشيران إلى أن تلك القاعدة نموذج من بنية حربية كبيرة تم إنجازها من دون أن تطالها أجهزة الرصد الإسرائيلية، وتاليا فإن ذلك الفشل في اكتشافها يؤسس لمعادلات جديدة.
خطاب ردعي
منذ أن أطلق "حزب الله" حرب مساندة غزة في اليوم التالي لعملية "حماس" في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، بدت إسرائيل متمتعة بتفوق تقني وأمني لا ينكر. عمليات الاغتيال اليومية التي طالت قيادات الحزب، والتي كان آخرها اغتيال المسؤول العسكري الأول في تركيبته القيادية فؤاد شكر، تمت بسلاسة وكشفت عن اختراقات كبيرة تطال الجسم الأمني لـ"الحزب" وتؤثر على صورته، وخصوصا أنه لم ينجح في ترتيب رد فعال ومؤثر، وبقيت ردوده ضمن الحدود المضبوطة والتي تم اجتيازها في مفاصل محددة من دون كسر الانتظام العام لقواعد الاشتباك، بينما كانت إسرائيل تنتهكها بشكل دائم ومهين وبوتيرة متصاعدة.
وكان للتأخر في الرد، المعطوف على سجال داخلي حاد ترتفع فيه وتيرة الاعتراض على حرب "حزب الله"، متخذة من انعدام قدرته على الردع وأحوال خراب غزة حججا، أن حوّل فكرة الردع إلى أزمة كبرى في وجه "الحزب" لا مفر له من مواجهتها والتعامل معها.
وكان لافتا أنه في اللحظة التي كان فيها المقطع يظهر إلى العلن كان رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع يعقد مؤتمرا صحافيا يدعو فيه "الحزب" إلى الركون للمخارج التي يؤمنها القبول بتنفيذ القرار 1701 الذي يفرض عليه الانسحاب إلى مسافة 8 إلى 10 كيلومترات شمال الليطاني وتسهيل استلام الجيش اللبناني للحدود. بنى جعجع مقاربته على الوضع الغزاوي الذي بات مستحيلا، وكذلك على ما يظهر من عدم قدرة "حزب الله" على الردع وما يمكن أن يستجره هذا الأمر من خطر كبير على البلاد.
يشير ذلك إلى أن فكرة الردع قد تعيد إنتاج موقع "حزب الله" في السياسة الداخلية وكذلك في سياق التفاوض الخارجي، إذ يظهره في هيئة الطرف القادر على إلحاق الأذية بإسرائيل، حيث يمكن أن يبيع عدم جنوحه إلى الرد بسعر غالٍ في السياسة، مستفيدا من أجواء التفاوض القائمة حاليا والتي تدفع الدول الكبرى النافذة في سبيل إنضاجها، وفي النزوع الأميركي لترتيب صفقة تنهي الحرب خلافا لطموحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو التصعيدية.
نجاح تركيب معادلة ردع وضبط تفترض توفر عوامل كثيرة متشابكة ومعقدة، وأهمها أن يكون توازن القوى فعليا وحقيقيا كما هو الحال في امتلاك السلاح النووي وما يرسمه من معادلات تجعل من استعماله سلوكا انتحاريا يمنع تهور أي جهة تمتلكه.
من هنا يمكن طرح سؤال حول طبيعة الردع التي يستعرضها "حزب الله" وحدودها والمقاييس التي توزن بها وإلى من تتوجه. وهل يمكنها تحقيق نوع من التوازن مع الترسانة الإسرائيلية ومع الحشود الأميركية البحرية والاستعدادات الغربية للدفاع عن إسرائيل؟
لا شك أن خلق توازن مع كل ذلك الحشد العسكري مستحيل، ولكن "الحزب" لا يلعب على الوقائع بل يستفيد من رغبة أميركا في عدم خوض الحرب ومن مخاوف الداخل الإسرائيلي والانقسامات الحادة التي تعصف بالحكومة الإسرائيلية بين فريق يطالب بإنجاز صفقة وإنهاء الحرب وفريق يحرص على استمرارها.