وما أدراك ما القمر؟

وما أدراك ما القمر؟

لا تتوقف سيرة القمر عند نوره الذي تَغنى به الشعراء والعشاق، فهناك تأثيراته العلمية على الأرض، إذ أنه يتغلغل بأسراره الخبيئة في حركة التيارات البحرية. وما يسمى بالمد والجزر ليس إلا بسبب قوة جاذبية القمر الذي اتخذه الأدباء حجة لقصائدهم الخالدة، واتخذ الرحالة من نوره دليلا لأسفارهم في الليل. وبالتالي، فإنّ الجاذبية مصدر قوة القمر أمام دوران الأرض، وهو يكمل مسيرته في الدجى، وفي المقابل يمنح تأثيراته النفسية على الإنسان حين يكون بدرا، فيصعب عليه النوم ليلا، ويزيد الاكتمال نشاطه، ويقلل راحته، ويرتد به إلى تغييرات عميقة وغامضة مع جميع الكائنات الأخرى، ليزيد اكتئابهم. وهو ما أوردته دراسة سويسرية قبل سنوات عن سلطة القمر المكتمل بدرا، وكيف يغير النمط السلوكي للبشر، مؤثرا في توقيت الهجرة والتكاثر عند الإنسان والحيوان، وحتى بعض الزهور الجميلة تُخرج دموعا من أطراف أوراقها الرقيقة بسبب اكتمال القمر الباهر في يومه الرابع عشر، فما هذا الحزن الذي يولّده القمر في تمامه يا ترى؟

وكي لا نتهم القمر بأنه مسؤول عن الدراما فقط، لديه جوانب إيجابية أيضا، فتختلف تأثيراته حين يكون هلالا، ويزداد في أيام أهلته الأولى الشعور بالنشاط والتجدد لدى جميع الكائنات، ورغبة قوية بالإنتاج والتخطيط، ترافقهم البهجة وقبول الآخر، إلى الزراعة والفن والاحتفاء بالزواج.

 كان العرب يتتبعون مراحل القمر وأطواره لضمان سلامة يومهم وأفراد عائلاتهم وتجارتهم وخططهم

أبحث عند قدماء العرب عن ماهية القمر، فعلى ما يبدو أننا أهملنا البحث عن أساطير الآلهات والمعبودات في جزيرة العرب، ولم نفعل كما فعلت أوروبا مع أساطيرها اليونانية، باستعادتها التراث الفكري والسلوكي المرتبط بالدين القديم لهم. ولكن ليس الإغريق فقط، إنما العالم القديم بأشمله، شرقا وغربا، كان يقدس الكواكب والأجرام السماوية إجمالا، وكل كوكب له دور ومكانة وطاقة، وأسطورة تحاك حول الكوكب لتصبح أقصوصة خرافية تتحول حكمة، ودرسا للناس يُقَدّمُ اليهم بشكل غير مباشر، كنوع من الردع والتربية. بدوري قمت فضولا بمراجعة دور الكواكب عند قدماء العرب، وخاصة القمر، وحين نبحث في مختلف المصادر مثل "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام" للمؤرخ جواد علي، ومعجم "تاج العروس"، ودليل هاندبوخ، وتفسير الطبري وابن هشام، لا نجد ذكرا لدى القدماء عن عبادة القمر بمعنى الاعتكاف والإلزام، وإنما هناك تقديس لمؤثراته العميقة على الأرض والإنسان ودابته، فكان العرب يتتبعون مراحل القمر وأطواره لضمان سلامة يومهم وأفراد عائلاتهم وتجارتهم وخططهم من خلال تأثيراته الإيجابية والسلبية، مما يجعل القمر وبقية الكواكب أشبه بعلم، علم الآثار العلوية، أي علم الفلك، أو كما نقول اليوم علم الأسترولوجي، فكانت متابعة الكواكب وخاصة القريبة من الأرض مثل القمر والزهرة وعطارد، تشبه في حاضرنا متابعة أحوال الطقس ومحاولة التكيف معها.

والحقيقة أنني لم أجد نصوصا قبل الإسلام فيها وصف لطبائع القمر، ولا أساطير، ولعلها محيت، ولكن بقيت الأبيات من شعر قدماء العرب، عن مدى تأثيرات هذه الكواكب وخاصة القمر المسؤول عن الموت، وسمي "مناة" لأنه قدري والقدر لا مفر منه.

ولأن القمر أسرع الكواكب في دورانه حول الأرض، ويُكمل دورته كل 28 يوما، سنّوا القوانين منه، والأبجدية العربية أعدادها بعدد أيام دورة القمر، وذكر جواد علي في الجزء السادس من مجلده المفصل، أسماء القمر أو صفاته، مثل سميع وصدق وحب وود وباهر وغاسق وسين، ولعل تفسير بعض المؤرخين للآية الأولى في سورة يس: (يس) أي يا سين، وياء نداء لمخاطبة القمر، وكيف أنه يمضي في صراط مستقيم وينذر قومه من الهلال إلى العرجون، من خلال تربيعاته ومنازله، بدليل الآية الكريمة: (والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم).

كان القمر لدى أهل ثمود يعني المنية، ولهم صنم له يعد من أشهر الأصنام في جزيرة العرب

ويبقى أهم ما يمكن ذكره عن قولنا اليوم في علم الفلك: اقتران الشمس والقمر، وهذا ما قاله قدماء العرب بأن الشمس والقمر زوجان، وبالتالي صنعوا أقصوصة إنجابهما لكوكب الزهرة، أي ابنهما عثتر حسب أساطير الأولين، ونصبح أمام ثالوث سماوي: الشمس والقمر والزهرة، اللات والعزى ومناة، الأب والأم والابن، وكما أتى في سورة النجم (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى)، وهذا يؤكد أكثر وجود الكواكب إجمالا في السماء ومعرفة العرب بها، وخاصة في سورة يوسف التي تؤكد وجود الكواكب كلها في مجموعتنا الشمسية، قوله تعالى: (إني رأيت أحد عشر كوكبا) فلو حسبنا المجموعة الشمسية كلها اليوم، ففيها 11 كوكبا من الشمس والقمر والأرض وعطارد والزهرة والمريخ والمشترى وزحل وأورانوس ونبتون وبلوتو إلخ.

 نعود إلى القمر المسؤول عن الموت، وحسب النصوص الجنوبية القديمة، كان القمر لدى أهل ثمود يعني المنية، ولهم صنم له يعد من أشهر الأصنام في جزيرة العرب، ليبقى القمر أو مناة إله القدر بوصفه حاكما لقوم ثمود، فكان بعضهم وكنوع من التمني للعمر الطويل والتهرب من الموت ولو لسنوات أخرى، يسمّي ابنه عبد مناة...

font change
مقالات ذات صلة