شوقي عبد الأمير: الثقافة خندق العرب للدفاع عن لغتهم وأنفسهمhttps://www.majalla.com/node/321899/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%B4%D9%88%D9%82%D9%8A-%D8%B9%D8%A8%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D8%AE%D9%86%D8%AF%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8-%D9%84%D9%84%D8%AF%D9%81%D8%A7%D8%B9-%D8%B9%D9%86-%D9%84%D8%BA%D8%AA%D9%87%D9%85-%D9%88%D8%A3%D9%86%D9%81%D8%B3%D9%87%D9%85
يرتكز الشاعر العراقي شوقي عبد الأمير على تاريخ إبداعي وإعلامي ودبلوماسي يمتد إلى أكثر من أربعين عاما، عمل خلالها في الصحافة الفرنسية، ومن ثم مستشارا ثقافيا في سفارة اليمن الديمقراطية وعمل في مجال العلاقات الدولية لمنظمة "يونسكو"، وأصبح خبيرا في العلاقات الثقافية الدولية بالمنظمة لمدة عشر سنوات، ومن ثم المستشار الثقافي العراقي والمندوب الدائم المساعد للعراق في "يونسكو"، وعين أخيرا مديرا لـ "معهد العالم العربي" في باريس، حصل على جوائز وتكريمات عدة مثل جائزة ماكس جاكوب للشعر العالمي وآخرها وسام الفنون والآداب الفرنسي رتبة فارس، من وزارة الثقافة الفرنسية عام 2023.
لكن يبقى الشعر شاغله الأول، إذ أصدر زهاء عشرين ديوانا. يقول عبد الأمير في حديثه الى "المجلة": "الشعر منحني روح الحياة". هنا نص الحوار:
حدثنا عن ديوانك "الأحجار تكره الصمت" الذي ستصدره قريبا؟
شكرا لأنك بدأتِ بسؤال عن الشعر، لأني قبل كل شيء شاعر وفي قراءة العالم شعريا أرى أن "الأحجار تكره الصمت". الغالبية من الناس يعتقدون أن الأحجار صماء لا تتحدث، وأنا أحيانا كثيرة أرى أحجارا تثرثر، وعندما تثرثر تحمل ماضيا، تحمل مُعاشا وذكرى، هذه الذكريات إما أن تكون تاريخية أو شخصية أو فنية، أحيانا ترين حجرا كأنه كائن بشري أو حيواني يقول ذلك وأشياء أخرى بشكله وحسب.
أهم ما يشغلني ابتكار الجمال، ولا قوة تواجه الموت غير الجمال
الحجر بالنسبة إليّ ممكن أن يكون قاموسا شعريا، ولهذا قلت إن الاحجار تكره الصمت، فمن قال إن أبو الهول صامت؟ هل نعتقد أننا عندما نكون أمامه لا نُصغي إلى لا كلام بلا صوت، أم أنه عند صمته العالي هذا الذي يهيمن علينا يقول أشياء وأشياء. "أحجار تكره الصمت" بالنسبة لي هي اللغة الشعرية التي تُستَنطق ولا تُسمع فقط، هناك لغة نستنطقها من المكان، وهناك لغة نسمعها ونصغي إليها، وهناك لغة لا نسمعها ولا نستنطقها، هناك فرق معروف للأسف اختفى في لغتنا اليوم، بين اللسان واللغة.
اللسان هو اللغة المنطوقة، ولهذا فان أهم قواميس اللغة العربية يسمى "لسان العرب". فاللغة هي كل وسائل نقل المعنى خارج اللغة المنطوقة.
استنطاق العالم
عندما يستنطق الناس ما حولهم هل يتغيّر العالم؟
من الصعب أن نغير العالم، وأصبح واضحا وبديهيا أمام الأفراد والأحزاب والتيارات الأيديولوجية والفكرية أن تغيير العالم كان حلما رومانسيا بعد الحرب العالمية الثانية، انطلقت البشرية عبر أفكار تارة قومية وتارة يسارية وتارة دينية، وناضلت بحماسة من أجل هذا الحلم في أنها ستغير العالم بقناعتها وأفكارها وحسب. لكن بدا واضحا للجميع أن هذا صار حلما، فاليقظة جاءت لنا بما هو أكثر دقة وتجليا في حياتنا اليومية وهو أن العالم يتغير بحكم آليات خاصة به وليست هناك سلطة لا قوة سياسية ولا حتى عسكرية تستطيع أن تغير العالم.
ما يغير العالم هو التطور والعلم والتكنولوجيا، أصبح اليوم هذا الجهاز الذي بيننا ونتواصل به أعظم ابتكار للبشرية بعد اللغة، كان يقال إن أعظم ابتكار غيّرَ البشرية هو اللغة وبعدها جاء ابتكار الورق والمطبعة، واليوم هو الإنترنت والعقل الاصطناعي هذا الذي يغير العالم. أما اليوم فكل منا، الشاعر والمغني والمبدع والسياسي والديني، يدلو بدلوه، تحت سقف الهاتف الذكي، هذا السقف الذي استوعب البشرية بتاريخها والأرض بقاراتها.
كل ما هو رمزي وفعلي وشخصي وآنيّ دخل تحت هذه الشاشة الضوئية، وهذا ببساطة يعني الانتقال الكوني من شاشة صلصالية هي "الرقيم" وهي أول صفحة من الطين الذي ولد في أور مرورا بالرق والحجر والبردية والورق إلى الشاشة الضوئية، هذا هو التطور والانتقال العميق الذي يقود المغامرة البشرية من انطلاقها من أور السومرية.
إن الشاشة الضوئية اليوم هي التي تعيد ابتكار الإنسانية التي لا نعرف إلى أين ستصل. أنا مجرد شاعر أهم ما يشغلني ابتكار الجمال.
هل تعتبر نفسك إذن قادرا على ابتكار الجمال؟
القدرة على ابتكار الجمال، تعني القدرة على الإبداع وعلى مواجهة الموت، لأنه لا قوة تواجه الموت غير الجمال.
العمل الثقافي
ما أولوياتك بعد تسلم منصبك مديرا لمعهد العالم العربي في باريس؟
عشت وعملت في فرنسا في المراكز الثقافية العربية وأسست مركزا ثقافيا يمنيا، ومنذ أكثر من أربعين سنة أعمل في هذا المجال بعد التجربة الطويلة وعبر أعلى المؤسسات بما فيها "يونسكو" وصلت إلى نتائج هي: نحن العرب نُختزل بصورة نمطية وهي سلبية جدا ويشترك فيها كل العرب ولا أحد يفلت منها وكلهم يقعون تحت هذه الصورة النمطية السلبية، وأي إعلامي يعمل في الوسط الثقافي والإعلامي عليه أن يفكر كيف يحسّن هذه الصورة وكيف يقف ضدها ويصحّح دلالاتها، وهذه الصورة تُختزل بثلاثة عناصر، الماضي أولا: العرب أبناء الماضي سومر وفرعون وهم ليسوا أبناء هذا العصر، وهذه أولى الصفعات التي نتلقاها في الخارج.
ثانيا: العنف أي نحن المكان الجغرافي للحروب الأهلية والحركات المتطرفة والذبائح على الشاشات في مسلسل رهيب لا يزال يتواصل، وهذه أيضا صورة مشوهة أخرى عنا. لسنا مصدر هذه الحروب وهذا العنف بل نحن ضحاياه. الشيء الثالث: الاستهلاك والعقود والصفقات.
أي لسنا إلا صورة الأسواق والمولات.
أمام هذه الصورة النمطية علينا أن نفعل شيئا لمواجهتها. بالطبع سيكون من واجب كل عربي يعمل في ميدان اختصاصه أن يفعل شيئا ضد هذا أو على الأقل أن يعي هذا. أما أنا فإن أحد مشاريعي في المعهد إصدار مجلة شهرية تُعنى بالإبداع العربي في كل مكان من الخريطة العربية وخارجها وذلك أن تصدر شهريا بمائة وعشرين صفحة ملونة وتُوزع في فرنسا والدول الناطقة بالفرنسية، وإن أرادوا ترجمتها إلى لغات أخرى فالأمر مفتوح لذلك. كل شهر يمكن أن يقرأ الناس في هذه المجلة ما يحدث في الراوية العربية والقصيدة العربية والسينما والأغنية العربية. هذا ما أشتغل عليه حاليا واطمح إلى تحقيق ذلك في مطلع العام المقبل.
يجب أن نعمل على تأسيس ثابت في الإعلام الثقافي، أي ألا نكتفي بترجمة رواية او ديوان شعر أو معرض للفن التشكيلي، لأن الناس سينسون ذلك ولن تتواصل معه إلا النخبة المحدودة، وهذا لا يكفي. لا يمكننا البناء على ذلك. البناء يعني أن نؤسس حجرا على حجر، شهرا بعد شهر. هذا ما أسعى اليه وهو جديد في خطابنا الثقافي مع الغرب.
معهد العالم العربي، هو أحد رموز العمل الثقافي العربي المشترك في أوروبا، كيف تقيم هذا العمل، وما الذي يحتاج إلى تطوير في هذا المجال؟
المعهد يعمل منذ أربعين سنة وهو مؤسسة كبرى نادرة فريدة وحيدة في العالم، لا يوجد نموذج مشابه يخدم الثقافة العربية في أي من عواصم العالم غير هذا المعهد.
المكان نفسه أعطته فرنسا ويجب أن نعترف بأنه أعظم ما يمكن أن يُقدم للثقافة، إنها أجمل عمارة مؤلفة من عشرة طوابق مقابل نوتردام رمز الحضارة الفرنسية. هل من عاصمة غربية أو شرقية أهدت الى الثقافة العربية مثل هذا الصرح؟ وأكثر من ذلك، حتى التمويل فهو في غالبيته القصوى يأتي من فرنسا وليس من العرب! هل تصدقون ذلك؟ وهل يجب أن نتوقف عند هذه الحالة غير الطبيعية ونبقى مكتوفي الأيدي؟
لا طبعا، وإن أولى مهماتي ستكون دعوة الحضور العربي الغني فكرا وإبداعا ومالا، أي يكون على مستوى هذه المهمة الحضارية التي لا غاية لها إلا الدفاع عن حضورنا في العالم. وإن هذا المعهد هو المنصة الكبرى لمثل هذا الدور.
"كتاب في جريدة" هو مشروع العصر للثقافة العربية ونعمل على أن يعود في الفترة المقبلة
سأعمل كل جهدي بالتعاون والتنسيق مع الرئيس جاك لانغ لدعوة الدول والشخصيات والمتمولين والقادرين، لنقول لهم تعالوا يا أخواني لنخدم ثقافتنا، هذا المكان لا يوجد له نظير بالعالم، فالمعهد أهم منصة حضارية للعرب وعليهم أن يستثمروا بها وألا يبقوا متأخرين.
هذا كما لا يفوتني أن أؤكد أن العقد الأخير من حياة المعهد أحدث نقلة نوعية في مستوى حضوره ودوره في فرنسا وعبرها في العالم من خلال شخصية الرئيس جاك لانغ الذي يعرفه العالم أجمع بكونه أهم وزير ثقافة فرنسي بعد أندره مالرو وأن من حظ الثقافة العربية أن تدافع عنها شخصية معترف بها عالميا مثل لانغ.
صعود اليمين
يعيش العالم أوقاتا حرجة مع صعود اليمين المتطرف في أوروبا وتفاقم الإسلاموفوبيا والعداء للمهاجرين، ما الذي تستطيع الثقافة فعله في أوقات كهذه؟
اليمين المتطرف يصعد وكيف نعالج أو ندافع عن حضورنا أمام هذا اليمين العنصري، لا نملك إلا الثقافة. لا يوجد عندنا خندق للتصدي لهذا المد الأسود إلا عبر الثقافة والدفاع عن حضورنا من خلال القول أولا إن هذه النظرة الدونية التي تنظرونها للعرب سترد إلى صدوركم ونحوركم، حينما تكتشفون أننا أمة مبدعة وأمة خلاقة، وأننا أمة أضاءت التاريخ، والآن ممكن أن تتواصل.
لكن كيف نقول هذا؟ تحدثت عن المجلة كخطوة أولى، وهناك إمكانات كثيرة أن يستثمر العرب في الدفاع عن حضورهم في هذه المرحلة الخطيرة من التاريخ البشري لا يوجد خندق يستطيعون أن يدافعوا فيه عن لغتهم وأنفسهم وهويتهم غير الثقافة، نحن نعلم اننا اليوم لسنا مبتكري تكنولوجيا وعلوم وتقنيات. هذه حقيقة يجب أن يعترف بها العرب، لذا لم يبق عندهم إلا جبهة واحدة وهي الثقافة وهم قادرون على الإبداع فيها، لذا فإن عليهم أن يحملوا تراثهم وإبداعهم إلى العالم. ولا يتطلب الأمر سوى القليل من المال إلى هذه المؤسسة وغيرها في العالم، والحمد لله نحن شعوب غنية لذا فإن المعهد ينتظر دورا ودعما أكبر من الدول العربية القادرة، وسيرتد هذا الفعل إيجابيا حول صورة العربي وحضوره في العالم.
توقف تمويل مشروع "كتاب في جريدة" الذي بدأ عام 1995. فهل يمكن أن يعود؟
يمكن جدا أن يعود وهذا موضوع آخر لا علاقة له بالمعهد، بصفتي صاحب هذا المشروع ومؤسسه عندما كنت مستشارا لمنظمة "يونسكو". إننا اليوم في صدد العمل على إعادة الحياة إلى هذا المشروع الذي يعتبر دون منازع مشروع العصر للثقافة العربية. ولكنني هذه المرة سأكون منسقا من الخارج، سأؤسس هذا المشروع من جديد وأشرف عليه من بعيد لأن مهماتي في المعهد ليست قليلة. وهنا أود ان أحيي معالي الشيخ محمد بن عيسى الجابر على هذه المبادرة الكبيرة. عمل كتاب في جريدة طيلة 17 عاما من الإصدارات بمعدل مليوني نسخة في السنة وزعت مجانا في المنطقة العربية بشكل لم يحدث له مثيل لا في ماضي العرب ولا حاضرهم، لذا صار الحدث الثقافي الأكبر والأهم اليوم. انتظروا مؤتمر الانطلاقة الجديدة.
شاعر ودبلوماسي
شغلت مناصب دبلوماسية عديدة، كيف استطعت الجمع بين شخصية الشاعر والدبلوماسي وهل طغت إحداهما على الأخرى؟
بصراحة لم أختر أن أصبح دبلوماسيا لكنها الحاجة، وأنا في باريس عملت أولا في الصحافة وأصدرت مجلة "العالم العربي في الصحافة الناطقة بالفرنسية" في عام 1976 وكانت تهدف للنقل من الصحافة الفرنسية ما يقال عن العالم العربي وترجمته، وكنت أبيعها للسفارات ووكالات الأنباء العربية وكنت أعتاش منها، إلى أن أسقط صدام حسين جوازي وبقيت لفترة مشردا بلا هوية إلى أن طلبت من سفارة اليمن الجنوبي في ذلك الوقت ان أقوم بدور ملحق ثقافي وعندها بدأت العمل الثقافي والدبلوماسي مع سفارة أفقر بلد عربي، ثم تطورت مسيرة العمل الدبلوماسي ففتحت المركز الثقافي اليمني بعد الوحدة بين اليمنين، وبعد ذلك انتقلت للعمل الدبلوماسي في "يونسكو" ورجعت بعد سقوط الديكتاتور لتمثيل العراق في "يونسكو" كمندوب دائم. حدث هذا عبر سنوات طويلة وعمل دائب في التعريف بالثقافة العربية في فرنسا. هذه الصيرورة الدبلوماسية قادتني الحياة لها ولم أخطط لها أو أدرس لأجلها. الإيمان والحب والجمال هم المعلمون الكبار في كل مكان وزمان.
أما عن الجمع بين الاثنين فأنا أقول دائما إننا ننسى أن الدبلوماسي والشاعر يعملان في نفس الموقع، اي اللغة، فالدبلوماسي يكتب، يخاطب، يقيم ندوات، ويكتب التقارير لبلده، والشاعر يشتغل أيضا في اللغة، لكن وهنا المفارقة. علاقة الشاعر باللغة غير علاقة الدبلوماسي بها،إن علاقة الشاعر باللغة هي علاقة اختزال وكشف، علاقة وجودية وإبداعية، أما علاقة الدبلوماسي باللغة فهي علاقة توصيل للفكرة والمعلومة بأبسط صورها إما إلى بلده أو البلد الذي يستضيفه. هنا تحصل فائدة مشتركة عندما يتعلم الشاعر من الدبلوماسي الوضوح وعدم الغياب في التهويمات الشعرية ويتعلم الدبلوماسي من الشاعر الاختزال وعدم الدخول في تفاصيل لا جدوى منها في التعبير عن الحقائق.
ما شعرنا اليوم إلا عبارة عن استمرار لهذه الشعلة التي انطلقت من هناك، مع أول جملة في جلجامش
الأدب السومري
قلت يوما "لا أستطيع أن اكتب نصوصي دون الوقوع تحت تأثير الأدب السومري". كيف ترجمت هذا التأثير في قصائدك؟
أجل، إن لي خصوصية في هذا الأمر وهي كوني ولدت في الناصرية، والناصرية هي سومر، والناصرية الحديثة اليوم تبعد خمسة كيلومترات عن أور عاصمة الحضارة السومرية، وقد كنت في حادثة غريبة سأفقد حياتي في آثار أور وكان عمري ست سنوات عندما اصطحبنا معلم المدرسة الابتدائية للاطلاع على آثار أور وكدت أسقط في حفرة. عرفت في ما بعد أنها مقبرة السلالات السومرية وكان يمكن أن أنتهي هناك، عدت إلى هذا المكان أخيرا وكان مشهدا مهيبا... ما الذي قاد خطاي طفلا وحدي أمام هذه الهاوية التي عثروا فيها على عظام الحضارة؟
لدي علاقة شخصية بسومر كوني ابن المدينة التي هي اليوم مهد لكل الديانات وقد رأينا كيف صلى البابا فرنسيس على زقورة أور (معبد إينانا) ومن قبله البابا يوحنا الذي قبل جدار مقام ابراهيم هناك. ولكن بمعزل عن كل هذا، أؤكد أن كل شاعر يقف اليوم على هرم ارتفاعه خمسة آلاف سنة على الأقل، هذا الهرم هو النصوص الأولى التي كتبت شعرا وهي جلجامش وإنانا والطوفان والخليقة وقصائد الحب السومرية، الشاعر اليوم الذي يكتب ولا علاقة له بهذا الماضي انما هو يدير ظهرا لتراث شعري لا يمكن نسيانه، وما شعرنا اليوم إلا عبارة عن استمرار لهذه الشعلة التي انطلقت من هناك، مع أول جملة في جلجامش:
"هو الذي رأى كل شيء
فغني باسمه يا بلادي".
كيف ممكن أن نكتب شعرا اليوم ولا نفكر بهذه الجملة العظيمة. لم تكن باللغة العربية، فقد كانت باللغة السومرية أي أن أيّ شاعر لا يقرأها إلا مترجمة وهي موجودة بكل اللغات الحية، لذا فإن شاعر اليوم الذي يكتب ولا علاقة له بهذا الشعر العظيم إنما يقوم بخطوة زائفة وينحرف عن مجرى الشعر عالميا.
ما بين إصدارك الأول ديوان "حديث لمغني الجزيرة العربية" عام 1976 والمختارات الشعرية "خيانة الألم" عام 2023 أصدرت أكثر من عشرين ديوانا، كيف تنظر اليوم إلى هذه الرحلة مع الشعر؟
عادة لا أفكر بالنص بعد ولادته سواء أكان قصيدة أو ديوانا، لذا أرى أنه سوف يعيش سواء أحبوه أو كرهوه. لولا الشعر لما عشت كما أعيش الآن ولما أحسست بجمال الحياة وعمقها ولما تذوقت الوجود والحب والطبيعة والإنسان كما أتذوقها الآن.
لولا الشعر لكان السقف الذي فوق رأسي هذا أدنى ويكاد يسحقني، والآن أراه كأنه سماء. لولا الشعر ما كانت هذه الجدران بعيدة عني ولا أحس بحصارها. منحني الشعر الحرية وتذوق أجمل ما في الحياة وأعمق ما وهبته لنا وهو الحب واكتشاف الآخر واكتشاف القارات والأمكنة وقراءة الحجر بمسبار الشعر والحساسية الشعرية.