الذكاء الاصطناعي يُشعل صراعا دوليا

سيعيد تنظيم العالم ويغير مسار تاريخ البشرية

شترستوك
شترستوك
الصراع الأميركي الصيني في مجال الذكاء الاصطناعي يتصاعد

الذكاء الاصطناعي يُشعل صراعا دوليا

قبل عقود كان التنافس على الفضاء والهبوط على سطح القمر من أبرز ملاحم التنافس العلمي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي إبان حقبة الحرب الباردة. وقتها أنفق المتنافسان أموالاً طائلة لتحقيق السبق في هذا الجانب التكنولوجي، حتى أن البعض أدرج ذلك الإنفاق ضمن نظرية المؤامرة، بحيث وصف بالمنافسة الوهمية، وذلك باتهام الولايات المتحدة أن وصولها إلى سطح القمر ما كان إلا خدعة استراتيجية لإدخال الاتحاد السوفياتي في سباق وهمي مكلف مادياً وبشرياً ودون طائل.

إلا أن الصورة اليوم تختلف باختلاف التقنية التي يتنافس عليها اللاعبون الدوليون من أجل كسب الريادة، بعدما شهد العالم في العقد الأخير تطوراً هائلاً في مجال الذكاء الاصطناعي، بحيث أصبحت هذه التكنولوجيا محركاً رئيساً للابتكار والتقدم في العديد من المجالات، بدءاً من الطب وصولاً إلى الاقتصاد والصناعة.

مع هذا التقدم، راحت تتصاعد المخاوف في شأن تأثيرات الذكاء الاصطناعي على التوازن الدولي والقوة الجيوسياسية بين الدول، إذ يختلف المختصون في مجال التقنية على الكثير من المسائل، إلا أن الجميع يكاد يتفق على مسألة أن الذكاء الاصطناعي سيعيد تنظيم العالم ويغير مسار تاريخ البشرية، بعدما بدأت تلك التقنيات بخلق موجات من التقدم في البنية التحتية الحيوية والتجارة والنقل والصحة والتعليم والأسواق المالية وإنتاج الغذاء والاستدامة البيئية.

 

وجدت وكالة مشاريع الأبحاث الدفاعية المتقدمة في الولايات المتحدة، أنه عندما تتنافس طائرة مقاتلة تُقاد عبر الذكاء الاصطناعي بطائرة يتحكم فيها الإنسان، تفوز الأولى في كل مرة

"جيش التحرير" ووكالة المخابرات المركزية

على جانب آخر من النقاش، تناول تقرير نشرته وحدة التقارير الخاصة في "رويترز" العام الماضي، وتقرير آخر كتبه قبل عامين الباحث في معهد "كروآسيا"، ليوناردو دينتش، بعض الجهود والإنجازات التي حققها الجيشان من خلال الاستعانة بتقنية الذكاء الاصطناعي، ومدى سرعة كل جيش وشراسته في العمل على تقوية عناصر قوته من خلال التقنيات الحديثة، إذ تعمل كل من وكالة المخابرات المركزية الأميركية، وجيش التحرير الشعبي الصيني، على تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي لإنشاء جيوش من "محاربين آليين" أكثر فعالية من الجنود البشريين مستقبلاً.

وقد وجدت وكالة مشاريع الأبحاث الدفاعية المتقدمة في الولايات المتحدة الأميركية، أنه عندما تتنافس طائرة مقاتلة تُقاد عبر الذكاء الاصطناعي بطائرة يتحكم فيها الإنسان، تفوز طائرة الذكاء الاصطناعي في كل مرة.

ويقر خبراء الذكاء الاصطناعي، ومعهم مجموعة من القيادات العليا في وزارة الدفاع الأميركية، بأنَّ التطورات في الذكاء الاصطناعي سوف تؤدي إلى إحداث تحول كامل في الإدارة الحكومية، والأمن الاقتصادي، والاستقرار الاجتماعي، والحوكمة العالمية.

كما يعبرون عن خشية حقيقية من عدم المقدرة على اللحاق بركب التقدم الصيني السريع في الذكاء الاصطناعي، بسبب عدم الاستثمار المناسب في هذا المجال، فثمّة شكاوى من البيروقراطية الأميركية داخل المؤسسات المعنية بصنع القرار.

شترستوك
السلطات الأميركية منعت الصين من الوصول لبعض التقنيات الحديثة التي من شأنها أن تعزز قدرتها في مجال الذكاء الاصطناعي

ويقول كبير مسؤولي البرمجيات في البنتاغون المستقيل من منصبه نيكولا تشايلان إن "الدولة التي تصل الى نقطة الاختراق في الذكاء الاصطناعي في العقود المقبلة، من المرجّح أن تهيمن على السياسة والتجارة العالمية".

بعدها قدم تشايلان استقالته من منصبه "احتجاجا على الوتيرة البطيئة للتحول التكنولوجي في الجيش الأميركي، ولأنه لا يستطيع الوقوف لمشاهدة الصين تتفوق على الولايات المتحدة"، ملخصا وجهة نظره في الصراع التقني بالقول: "إنَّ هذه التقنيات الناشئة أكثر أهمية بكثير لمستقبل أميركا من الأجهزة، مثل الطائرات المقاتلة العالية التكلفة"، مضيفا انَّ الدفاعات الإلكترونية الأميركية في بعض الدوائر الحكومية كانت على مستوى "رياض الأطفال"، بحسب وصفه.

في هذه المسألة، كما في غيرها، يمكن تسجيل ملاحظة على وجود اعتراضات من مسؤولين كبار في وزارة الدفاع أو غيرها من المؤسسات الأمنية الأميركية على الجهات التي تتلقى الدعم السخي مقابل المؤسسات التي لا تحظى بذلك، معللين استياءهم من تلك الحالة بأنه رغم الميزانيات الضخمة والأموال الطائلة التي تنفقها الحكومة الفيديرالية سنوياً، إلا أنَّ جزءا كبيرا يذهب في الاتجاه الخطأ، بحسب شهادة بعض التنفيذيين السابقين. من ضمن أبرز الأمثلة، الدعم الذي تتلقاه شركات السلاح التقليدية بسبب تأثيرها القوي على بعض المشرعين الأميركيين.

يخشى كثير من المسؤولين الأميركيين، بمن فيهم نيكولا تشايلان، من خسارة الولايات المتحدة السباق ضد الصين، لأنَّ "واشنطن ليست عدوانية بما يكفي في تمويلها" أو دعمها لمشاريع الذكاء الاصطناعي

استراتيجيات المنافسة بين أميركا والصين

في عام 2017 حدد قادة الصين هدفاً طموحاً يتمثل في تحقيق التفوق العالمي في مجال الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2030 تبناه الرئيس الصيني شي جين بينغ الذي فرض على الشركات والمحاكم والإدارات الحكومية المختلفة في الصين التعاطي مع المسألة بأعلى درجات الاهتمام، وذلك لكون المنافسة تتعدى امتلاك التقنية لوضع المعايير والتشريعات العالمية الخاصة بها.

 ومن ضمن التشريعات التي يتم البحث فيها مسألة حقوق الطبع والنشر التي يقوم العنصر البشري بإدخالها على برامج الذكاء الاصطناعي، وتعرف بالبيانات التوليدية والتدريب، وهي عبارة عن بيانات خام يُغذى بها النظام لكي ينتج في ما بعد نصوصه الخاصة به، إلا أن تلك النصوص هي في الأساس من صناعة بشرية ولها حقوق فكرية وحقوق طباعة ونشر، حتى أن الاتحاد الأوروبي انحاز الى حقوق المؤلفين والناشرين على حساب شركات الذكاء الاصطناعي.

في العودة إلى مسألة المنافسة بين الولايات المتحدة والصين في مجال الذكاء الاصطناعي، يخشى كثير من المسؤولين الأميركيين، بمن فيهم نيكولا تشايلان، من خسارة الولايات المتحدة السباق ضد الصين، لأنَّ واشنطن ليست عدوانية بما يكفي في تمويلها أو دعمها لمشاريع الذكاء الاصطناعي بحسب وجهة نظره.

على عكس الصين التي تعمل بالشراكة مع القطاع الخاص، أو من خلال الإشراف عليه لتقوية قطاع الذكاء الاصطناعي، وذلك يسهل عملها في الوصول إلى الأهداف الاستراتيجية المرجوة من التقنيات الحديثة.

شترستوك
تتصارع الجهات الفاعلة الصينية، ونظيراتها الغربية، مع الأخطار والمخاوف المرتبطة بتطوير الذكاء الاصطناعي

على النقيض تماما، تجد الحكومة الفيديرالية الأميركية صعوبة في إيجاد شراكة بين القطاعين الخاص والحكومي في مجالات التقنية، وخصوصا بعد رفض شركة "غوغل" وغيرها من كبرى شركات التقنية التعاون مع وزارة الدفاع الأميركية في مجال الذكاء الاصطناعي.

إلا أن الولايات المتحدة وضمن إطار استراتيجيا منع الخصم من امتلاك التقنية اللازمة لتطوير قطاع الذكاء الاصطناعي، جعلت من الصعب على الصين الحصول على الرقائق التي تحتاجها لتطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي المتقدمة، مثل نماذج اللغات الكبيرة القادرة على التنافس مع تلك من الولايات المتحدة. بل أكثر من ذلك، منعت الشركات الأميركية وصول المطورين والمبرمجين الصينيين إلى بعض البرامج الحديثة.

فقد تم أغلاق منافذ الذكاء الاصطناعي الأميركي على مجموعة من الدول من ضمنها إيران، وكوريا الشمالية، وروسيا، والصين. وذلك بعد اتهام الولايات المتحدة أو الشركة المعنية بأن أحد المتسللين التابعين للصين تمكن من سرقة أسرار حول مناقشات الموظفين في شأن تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في شركة "أوبن أيه آي".

يشارك أصحاب المصلحة الصينيون بنشاط في الجهود الدولية لوضع معايير للذكاء الاصطناعي، بما في ذلك قيادة مجموعة عمل حول إمكان التحكم في الأنظمة الآلية

مخاوف وتعاون

لسنوات مضت، لم تكن مسألة الذكاء الاصطناعي بالنسبة الى كثير من البشر مسألة جوهرية تمس حياتهم بشكل مباشر كما هو عليه الوضع اليوم، لكن سرعان ما انقلب المشهد، وبات الذكاء الاصطناعي تقنية تمس حياة البشر في جوانب عدة، مما استرعى اهتماماً خاصاً من دول عديدة لأهمية هذه التقنية المهمة في مستقبل الدولة ومكانتها وازدهارها.

وتتصارع الجهات الفاعلة الصينية، ونظيراتها الغربية، مع الأخطار والمخاوف المرتبطة بتطوير الذكاء الاصطناعي.

ويتيح هذا الاهتمام المشترك فرصا للتعاون المستمر، غير ان الطبيعة المتضاربة في كثير من الأحيان للعلاقات بين الولايات المتحدة والصين تمنع ذلك التعاون.

لكن وعلى الرغم من ذلك الصراع، يشارك أصحاب المصلحة الصينيون بنشاط في الجهود الدولية لوضع معايير للذكاء الاصطناعي، بما في ذلك قيادة مجموعة عمل حول إمكان التحكم في الأنظمة الآلية، في صورة تكرر روح التعاون في مجموعة من الجهود السابقة، مثل التعاون بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي في شأن ضمانات الأسلحة النووية خلال الحرب الباردة.

في الوقت نفسه لا يخفى على دول مثل الولايات المتحدة والصين حجم التأثير الذي سيحدثه الذكاء الاصطناعي على الدولة وعناصر قوتها الاقتصادية والعسكرية، وتالياً الجيوسياسية، ولهذا نجد الدولتين قد وضعتا نصب اعينهما فتح الخزائن للاستثمار في الذكاء الاصطناعي. بل أكثر من ذلك، تسلل الخوف الى عقول صانعي القرار بحيث بات لزاماً عليها التفكير في إجراءات احتواء وتطبيق إجراءات عقابية لمنع نقل التقنية الى هذه الدولة أو تلك، وقد تجاوز الأمر مسألة منع نقل المعدات المؤثرة كالرقائق، الى مسألة حرمان الطرف الآخر من الدخول على تطبيقات الذكاء الاصطناعي، وكل تلك الإجراءات تهدف في نهاية الأمر لضمان عدم اللحاق بالركب. 

والآن يقف العالم على أعتاب مسافة قريبة من تكشف الأثر الهائل الذي سيفرضه الذكاء الاصطناعي على حياتنا اليومية، لكن السؤال الحتمي: من هي الدولة الرائدة في هذه التقنية، وكيف ستستثمر الريادة، وتحصد تاليا مكاسب اقتصادية وسياسية لا حصر لها؟

font change

مقالات ذات صلة