في مسرحية "ادفنوا الموتى" (1936) للكاتب الأميركي إروين شو، ينهض ستة من قتلى الحرب في قبورهم ويرفضون أن يُدفنوا. يسأل قائد عسكري نقيب الكتيبة: ما الحلّ؟ فيجيبه: أوقفوا الحرب.
هذه الدعوة إلى إيقاف الحرب عادة ما تأتي بعد معارك طاحنة وأهوال حروب مدمّرة. لكن هذا الحل لا يلقى قبولا لدى معظم المحاربين عبر العصور، فكلّ طرف في الحرب يرى أنه يحارب من أجل قضية عادلة، وأنه لا خيار أمامه إلا الانتصار لها أو على الأقل الموت بشرف في سبيلها. ليس هناك وسيلة لإقناع المحاربين بعدم جدوى الحرب، لأن أي رأي معارض قد يُتهم صاحبه بالخيانة.
ومع تعدد أنواع الحروب بين وطنية تحرّرية وأهلية طائفية أو جهوية أو طبقية، نجد في كلّ مستوى من مستوياتها تبريرا يقنع الكثيرين بالذهاب إلى جبهاتها.
لا يمكن إغفال دور العالم المتفرّج على هذه الفظاعات دون أن يتحرّك لإيقافها أو أن يكف عن المساهمة في تأجيجها
في الحروب القديمة، ومنها حروب النصف الأول من القرن العشرين، عرفنا كيف تبدّلت خرائط وتشكّلت مجتمعات بناء على نتائج تلك الحروب، أو تحالفات وتفاهمات تمّت قبل الحروب وبعدها. وهناك حروب ونزاعات غيرت خطوط الخرائط حتى بعد هذا التاريخ، كما حدث في حروب تشيكوسلوفاكيا السابقة وانفصال جنوب السودان. إلا أن معظم الحروب الراهنة التي اندلعت، بقيت ضمن إطار القوانين الدولية بالنسبة إلى الحدود الجغرافية، مع تجاوزات في جوانب كثيرة يصل في بعضها إلى جرائم حرب ومحاولات للإبادة الجماعية، مثلما يحدث حاليا في غزّة.
لذا تهدف الحرب في بعض مستوياتها إلى الدفاع عن البقاء، سواء بقاء سكّان الأرض أو الأرض نفسها حسب الخريطة التي تشكّلت في التاريخ القديم أو الحديث. وقد تؤدي الحروب الأهلية إلى حلول شبه مؤقتة وإن بدت دائمة، كما في حرب السودان وانفصال جنوبه. إلا أن تبعات هذه الحرب ربما تكون كارثية، على كلّ المستويات، بما في ذلك رفض بعض القادة إيقاف الحرب التي قد تصبح هدفا لتحقيق مصلحة ما أو لمجرد البقاء بحد ذاته.
في رواية "مئة عام من العزلة" يصف غبريال غارثيا ماركيز هذا النوع من الحروب بـ"حرب البراز"، حيث لم يكن الكولونيل أوريليانو بوينديا يتصوّر "أن بدء حرب أسهل بكثير من إنهائها". إذ احتاج إلى سنة من الصرامة الدامية ليجبر الحكومة على اقتراح شروط صلح مواتية للثوار، وسنة أخرى ليقنع أنصاره بملاءمة القبول بها. ووصل إلى حدود من القسوة لا يمكن تصورها لإخماد تمردات ضباطه الذين رفضوا المتاجرة بالانتصار، وانتهى به الأمر إلى الاستعانة بقوّات معادية لإخضاعهم.
ومع أن الحروب لا تتوقف عادة إلا بعد وصول المتقاتلين إلى أحوال كارثية تمكنهم من اكتشاف فداحة ما هم عليه، فإنه لا يمكن إغفال دور العالم المتفرّج على هذه الفظاعات دون أن يتحرّك لإيقافها أو أن يكف عن المساهمة في تأجيجها، سواء عبر تجارة الأسلحة أو دعمه للمحتلين وميليشيات عسكرية، التي عادة ما تحوّل الثورات المتطلعة للتغيير إلى حروب قذرة تقام بالوكالة، أو نتيجة لتصدير أزمات بلدان أخرى.
فمن يعتقدون أن في إمكانهم تصدير أزمات إلى بلدان وأماكن أخرى، لا يتصورون أنها ستعود إليهم يوما ما وبأكثر مأسوية. ما قام به تنظيم "داعش"، وقبله تنظيم "القاعدة"، في مختلف أنحاء العالم، يؤكد أن هناك مصائر مشتركة تتأثر ببعضها ولا يمكن الفكاك منها أو تصديرها إلى أماكن أخرى. من هنا، لا حل لكثير من الأزمات المصدّرة أو المؤجلة سوى إيقاف الحروب، وإلا فإن تبعاتها ستكون قاسية، وسنشهد ثورات وحروب موتى، أو أشباه موتى، لا أحد يمكنه إيقافها، خاصة أن هذه التبعات لن تقتصر على منطقة واحدة، بل ستشمل العالم بأسره.
أحد فلاسفة الأنوار في القرن الثامن عشر واسمه غبريال بونو دي مابلي (1709 –1785) قال إن الحروب الأهلية قد تكون في بعض الأحيان علاجا شافيا للمجتمع. لكنني أظن أن المفكّر الفرنسي لو عاش وشهد الحروب الأهلية الحالية في السودان وليبيا واليمن وسوريا والعراق لغيّر رأيه.
الذين ما زالوا يرون أن الحروب ضرورة أو حل للمشاكل يتجاهلون حركة التاريخ
فالذين ما زالوا يرون أن الحروب ضرورة، أو حل للمشاكل، كما حدث في الحروب الأهلية الأوروبية، يتجاهلون حركة التاريخ عبر هذه القرون، إذ أن الحروب التقليدية القديمة لم تعد تشبه الحروب الحالية، التي وصلت إلى ما هي عليه عبر مراحل وتحولات زمنية بدت في بعضها غير معقولة ولا إنسانية على الإطلاق.
"لا أبطال في هذه الحرب" كتب إرنست همنغواي إلى عائلته من ميلانو في 18 أكتوبر/ تشرين الأول 1918. وأظن أنه يمكن القول إنه لا أبطال في كلّ الحروب.