الديمقراطية ليست مجرد انتخابات ومؤسسات مُنتخبة. هي قبل ذلك وبعده ثقافة تقوم على احترام التعدد والتنوع والاختلاف وقبول الآخر والتسامح ونبذ التعصب والتطرف. هذه الثقافة هي ما يميز الديمقراطيين، أو من يصح أن يُسموا كذلك. فلا يمكن بناء نظام ديمقراطي أو ضمان استمراره دون ديمقراطيين مؤمنين بهذه الثقافة. ولا قيمة لانتخابات إن لم يحترم كل مرشح منافسه أو منافسيه، ويقبل المرشحون نتيجتها فرحين إذا فازوا ومتطلعين إلى التعويض في دورة تالية إذا خسروا. وحبذا أن يهنئ الخاسر من يفوز ويتمنى له التوفيق، ويلتزم من موقع المعارضة بأن يضع المصلحة العامة أو الوطنية فوق كل اعتبار.
وقل مثل ذلك عن الناخبين، والمواطنين بوجه عام، في انتمائهم إلى هذا الحزب أو ذاك، وفي تأييدهم لمرشح أو آخر. مصالحهم تتطلب أن ينصتوا إلى الجميع، وتفرض على من لا يقتنع بمرشح الحزب الذي يؤيده هذا أو ذاك منهم أن يقترع في اتجاه آخر، أو يمتنع عن التصويت. وهذا هو ما يضفي على التنافس الانتخابي رونقه ويمنحه قيمته.
وحين يحدث غير ذلك، ناهيك عن عكسه أو نقيضه، فهذا مؤشر إلى أن الديمقراطية تمضى في طريق منحدر. وهنا، تحديدا، تكمن أزمة الديمقراطية الغربية التي كانت نموذجا يُروَّج في العالم ويُقتدى به في بعض بلدان العالم.
ونجد ما يدل على هذا الانحدار الآن في عدد متزايد من الديمقراطيات الغربية التي تزداد أزماتها، وتتنامى التيارات الراديكالية التي توصف بأنها متطرفة فيها، ويُحقق اليمين الأقصى صعودا تدريجيا ولكنه مُطرد منذ مطلع الألفية الراهنة. ولكن أزمة الديمقراطية الأميركية تبدو الأكبر والأخطر، سواء في طابعها، أو في الآثار التي قد تترتب على تفاقمها بحكم موقع الولايات المتحدة القيادي في العالم. هذا فضلا عن رمزيتها من حيث إنها ثاني أقدم ديمقراطية في العالم بعد بريطانيا. كما أن الثقافة الديمقراطية فيها كانت الأقوى بين الديمقراطيات الغربية إلى حدٍ جعلها مرجعا لنظريات الثقافة السياسية التي تحظى بتقدير كبير في أوساط دارسي العلوم الاجتماعية منذ أن وضع أساسها كل من غابرييل ألموند وسيدني فيربا في كتابهما التأسيسي "الثقافة المدنية" (Civic Culture) الصادر عام 1963.
استقطاب سياسي يُقوّض الديمقراطية
يلاحظ أي متابع للساحة السياسية الأميركية في السنوات الأخيرة ازدياد الاستقطاب السياسي الذي يُهدّد استمراره أي نظام ديمقراطي يعجز عن وضع حد له أو تقليل حدته. يحمل الاستقطاب في طياته ثقافة غير ديمقراطية، بل قل إنها نقيض هذه الثقافة. ويُشطَر المجتمع في حالة الاستقطاب إلى كتلتين كبيرتين منغلقة كل منها على نفسها، فيما تنحسر المساحة في الوسط بينهما. وتسود في ظل هذا الانشطار- الانغلاق ثقافة التعصب ورفض الآخر والسعي إلى شيطنته والتطرف في المواقف والعنف اللفظي.
ونجد في حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية الراهنة تجليات هذه الثقافة غير الديمقراطية، وقد بلغت ذروة غير مسبوقة في تاريخ الولايات المتحدة وفاقت ما كان في الانتخابات السابقة عام 2020. وقد حفلت مناظرة ترمب- بايدن (قبل انسحابه) في 27 يونيو/حزيران الماضي بكل مكونات هذه الثقافة المعاكسة لتقاليد انتخابية أرساها الآباء المؤسسون، وعُمقت منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر. فقد حفلت بإهانات متبادلة وأكاذيب كانت مرذولةً في التقاليد السياسية الأميركية. ولا يقتصر الافتقار إلى هذه التقاليد المرتبطة بالثقافة الديمقراطية على النخب السياسية في الحزبين. فالتعصب ورفض الآخر واضحان في مواقف كثير من أنصار كل منهما. ولهذا يتسم التفاعل السياسي عموما بالحدة والعدوانية.
نجد ما يدل على هذا الانحدار الآن في عدد متزايد من الديمقراطيات الغربية التي تزداد أزماتها، وتتنامى التيارات الراديكالية التي توصف بأنها متطرفة فيها
وهذا مؤشر قوي إلى بداية انحدار الديمقراطية التي وصلت إلى أعلى مستويات الارتقاء، وتباهى بها الغربيون بوجه عام. وليس الأميركيون فقط، وقُدمت إلى العالم بوصفها السبيل الوحيد لتحقيق النجاح والإنجاز والازدهار، وحاولت إدارات أميركية عدة استخدامها أداةً للضغط على حكومات دول اتهمتها أو زعمت أنها في حاجة إلى تغيير أو إصلاح ديمقراطي.
تشبث بالسلطة يناقض الثقافة الديمقراطية
التداول السلمي السلس للسلطة أحد أهم مقومات الديمقراطية، إن لم يكن الأهم بين ترتيباتها الإجرائية. والإيمان بهذا التداول من أهم شيم الديمقراطيين. فالديمقراطي هو من يؤمن بأن السلطة وسيلة لتنفيذ برامج أو خطط يتوخى أن تجعل أوضاع البلاد والعباد أفضل. ولذلك فهو يقبل نتيجة الانتخابات حتى إن لم يكن راضيا عن الطريقة التي أُجريت بها، أو متشككا في سلامة أحد أو بعض إجراءاتها. وهذا ما حدث مثلا عقب انتخابات 2000 عندما اعترض المرشح الديمقراطي آل غور على نتيجتها، فأُحيلت إلى المحكمة الفيدرالية العليا. وعندما أصدرت حكمها وأكدت فوز المرشح الجمهوري بوش الابن، احترم آل غور قضاءها واعترف بالنتيجة على الفور، ودعا أنصاره إلى الاستعداد للانتخابات التالية مع مرشح ديمقراطي آخر.
لم يحدث أن تشبث رئيس أميركي بالسلطة عندما خسر انتخابات بخلاف ما حدث عام 2020. فلا يستقيم في أي نظام ديمقراطي أن يرفض مرشح الاعتراف بشرعية منافسه الفائز ثم يخوض الانتخابات التالية لاستعادة ما يظن أنه سُلب منه في سابقتها. وفي مقابل المرشح الذي يصر حتى اليوم على أنه حُرِم من حقه في الاحتفاظ بالسلطة عام 2020، ظل منافسه السابق متشبثا بالترشح لولاية ثانية رغم تراجع قدراته الذهنية والبدنية، وإلحاح كثير من قادة حزبه وأنصاره عليه ليتنحى، وبقي يتهرب ويماطل إلى أن قال المال كلمته وأوقفت التبرعات لحملته فاضطر إلى الانسحاب على مضض.
كما لم يحدث، قبل انتخابات 2024، أن كان تشكيك مرشح في أهلية منافسه للترشح إحدى الوسائل التي يستخدمها لتعزيز مركزه.
كلما اقترب موعد الانتخابات ازدادت مخاوف الأميركيين الذين يخشون تكرار ما حدث بعيد انتخابات 2020 عندما اقتُحم مبنى الكونغرس
جديدٌ هو كل هذا العشق للسلطة في ثاني أقدم ديمقراطية في العالم، ومناقضُ لأهم مقومات الثقافة الديمقراطية، ودال بالتالي على بداية انحدار ربما تكون انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني المقبل خطوة أخرى فيه.
ماذا بقى من "العُرس" الديمقراطي؟
كلما اقترب موعد الانتخابات ازدادت مخاوف الأميركيين الذين يخشون تكرار ما حدث بعيد انتخابات 2020 عندما اقتُحم مبنى الكونغرس، ولكن على نطاق أوسع. يُخشى مثلا أن تكون ردود أفعال بعض أنصار ترمب أكثر عنفا إن خسر الانتخابات، وأن تحدث صدامات يصعب توقع مداها. كما يُخشى، في المقابل، أن يرفض بعض أنصار كامالا هاريس الاعتراف بشرعية ترمب إذا فاز، ويستدعوا تفسيرا مختلفا عليه للدستور مؤداه عدم أحقية أي شخص دعم أو حرض على "تمرد" في تولي منصب فيدرالي. وهكذا يبدو أن التنافس الانتخابي الصحي الذي كان يحدت في أجواء مُبهجة فاستحق تسميته "عُرسا" ديمقراطيا يتحول إلى صراع محموم قد تُقامُ بعده "مآتم" للعزاء فيمن قد يلقون حتفهم خلال صداماتٍ عنيفة، بسبب حِدة الاستقطاب السياسي وشِدة التشبث بالسلطة، بالتوازي مع ما يبدو أنه تآكل للرابط الأقوى الذي جمع الأميركيين رغم اختلافاتهم العرقية والدينية والسياسية الوفيرة، وهو الاحترام الكامل للدستور والقانون، والمكانة الرفيعة للقضاء الذي كانوا يعودون إليه واثقين في أحكامه.
وليس أكثر دلالة على مدى عمق الأزمة التي تدفع ديمقراطية عريقة في طريق الانحدار من تكرار التحذير من نشوب حرب أهلية في حالة استمرار هذا الانحدار، وتوسع الجدل الذي أُثير حول فيلم المخرج الأميركي أليكسي غالرلاند "حرب أهلية" عند عرضه في دور السينما قبل عدة أشهر. صحيحُ أن حديث هذه الحرب ينطوي على مبالغات، ولكنه يدل على أن الخطر المترتب على تناقص الثقافة الديمقراطية في الساحة السياسية والمجتمع سيكون كبيرا، وأن عواقب انحدار ثاني أقدم ديمقراطية في العالم قد تكون وخيمة.