منصوري يدخل عامه الثاني في حاكمية مصرف لبنان... خيبة المودعين مستمرة

تمويل الدولة لم يتوقف والودائع إلى مزيد من القضم والضياع مع غياب الشفافية

إدواردو رامون
إدواردو رامون

منصوري يدخل عامه الثاني في حاكمية مصرف لبنان... خيبة المودعين مستمرة

في الأول من أغسطس/آب، كان قد مر عام على تسلم وسيم منصوري، النائب الأول السابق لحاكم مصرف لبنان، مهمات الحاكم السابق رياض سلامة في انتظار تعيين حاكم أصيل، من الطائفة المارونية بحسب الأعراف والقوانين المرعية الإجراء في لبنان.

توسم قسم من اللبنانيين خيرا عند تسلمه دفة الأمور في مصرف لبنان، على أساس أنه من خلفية قانونية كسائر الحكام الذين قادوا بدراية المصرف منذ نشأته حتى مجيء سلامة، وتوقعوا أنه سيعمد سريعا إلى تشكيل خلية لتصويب الأمور بإعادة نظر جذرية في كل القرارات والتعاميم التي اتخذها سلفه خلافا للقانون.

باكورة تحقيق الآمال كانت بإعلان منصوري وزملائه في الحاكمية التوقف عن تمويل الدولة. موقف سرعان ما شابته الضبابية بإعلانهم إمكان تجاوزه في حال صدور قانون ينص على هذا التمويل لتأمين احتياجات ملحة، أو في حال كان التمويل لمدة موقتة ولو من توظيفات الدولار للمصارف لدى مصرف لبنان، شرط أن يكون ذلك ضمن خطة إصلاحية، وعلى أن تكون هناك آلية واضحة لاسترداد المال المقرض إلى الدولة.

لا يزال المودع المحتاج لسحب وديعته في المصارف يخضع جبرا لـ"هيركات" يتجاوز 80 في المئة

لكن الأيام والأسابيع والأشهر التي تلت، أظهرت سريعا خيبة آمال عميقة في معالجة القضايا التي تهم المودعين واللبنانيين عموما. فمنصة "بلومبيرغ" التي روج لها مصرف لبنان كإطار شفاف لتلبية طلبات وعروضات الدولار في السوق، لم تر النور، وكانت الحجة عمليات المساندة والمشاغلة لحرب غزة التي أطلقت من الجنوب، علما أن منطلق إنشاء المنصة بقرار إداري يخالف قانون بورصة بيروت.

وجرى توحيد سعر الصرف قانونيا وإداريا في المعاملات والمبادلات التجارية والالتزامات الضريبية عند سعر يتأرجح بين 89500 و90000 ليرة لبنانية للدولار الواحد، وبقي سعر صرف الدولار المصرفي من دون بت، بحيث ظل المودع يسترد وديعته الدولارية تحت ضغط الحاجة على أحدث سعر معتمد وهو 15000 ليرة، بينما يدفع الضرائب والالتزامات المتوجبة عليه على سعر 90000 للدولار الواحد.

أ.ف.ب.
مقر البنك المركزي اللبناني في بيروت، 31 يوليو 2023.

يذكر، أن الحاكم السابق سلامة كان يردد في بداية الأزمة أن سعر صرف الدولار المصرفي هو ذاك المعتمد في التعامل بين مصرف لبنان والمصارف، قبل أن يقرر لاحقا منفردا، أسعار صرف مغايرة ومتعددة. ويتشبث منصوري راهنا بمنحى مغاير، مضمونه أن يقوم وزير المال أو الحكومة أو المجلس النيابي بتحديد سعر الدولار المصرفي. الى حين التوصل إلى حل، يستمر المودع الذي يرغب بسحب وديعته بالخضوع لـ"هيركات" يفوق الـ 80 في المئة.

لم تر النور منصة "بلومبرغ" التي روج لها مصرف لبنان كإطار شفاف لتلبية طلبات وعروضات الدولار في السوق، وكانت الحجة عمليات المساندة و"المشاغلة" لحرب غزة التي أطلقت من الجنوب  

لا شك أن الاستقرار القائم حاليا في أسواق سعر صرف الدولار هو مصطنع وغير علمي، ومرده تفشي ظاهرة "اقتصاد الكاش" حيث التعامل فيه بات يتم بصورة أساسية بالدولار، بتشجيع من السلطات الرسمية، التي أجازت التسعير به، وعمل مصرف لبنان على تأمين رواتب موظفيها أيضا بالدولار، في انتهاك فاضح للسيادة النقدية. كذلك، تشدد مصرف لبنان في ضخ السيولة بالليرة اللبنانية كما تشددت قوى الممانعة في ضبط عمليات المضاربة في سوق الصرافة ضمن استراتيجيا داعمة لمنصوري في مهامه. 

وانسحبت حال الضياع على موضوع معالجة المصارف المتعثرة، فمنصوري سبق له ان شارك مع زملائه في أغسطس/آب 2020 في القرار الذي طلب من كل مصرف إعداد خطة مناسبة لاستعادة نشاطه وعرضها على مصرف لبنان للموافقة عليها تحت طائلة تعيين مدير موقت للمصرف المتخلف وإحالته عند الاقتضاء إلى القضاء للتصفية والحجز على ممتلكات المسؤولين عن إدارته. وتم على هذا الأساس إنشاء لجنة لدى مصرف لبنان لإعادة هيكلة المصارف، ومضت أربع سنوات دون تحقيق المطلوب، لا بل استعيض عنه برفع شعار بديل طارئ يرمي الأمور على كاهل الحكومة ومجلس النواب للاتفاق على حل لهيكلة القطاع المصرفي، على أساس فكرة مستجدة طرحتها جمعية مصارف لبنان ومضمونها أن الأزمة نظامية.  

تخبط في سحوبات المودعين

كان هناك تخبط أيضا في موضوع سحوبات المودعين لودائعهم بالدولار، إذ تم خفض سقفها الشهري من 400 إلى 300 دولار بالنسبة الى المودعين الراغبين بالاستفادة من هذا التدبير بعد تاريخ معين، من دون أي تعليل لسبب هذا الخفض، والذي يراكم المخالفات بانتهاك حقوق دستورية أصيلة كحق الملكية وحق المساواة. وتبين لاحقا أن الـ 100 دولار المحصلة من الخفض هي لتغطية جزء من تكاليف تنظيم جديد للسحوبات مقداره 150 دولارا شهريا، يستفيد منه المودع الذي قام بتحويل وديعته من الليرة إلى الدولار بعد 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019. وقد نص هذا التنظيم الجديد صراحة على تأمين تكاليفه من التوظيفات الإلزامية للمصارف من الودائع الدولارية لديها قبل التاريخ السابق الذكر، أي من توظيفات لم تشارك في تكوينها الودائع بالليرة اللبنانية المحولة للدولار بعد 17 أكتوبر/تشرين الاول 2019.

تغاضى منصوري عن أمر مهم جدا، وهو أنه منتدب قانونا بالادعاء شخصيا من خلال النيابة العامة ووفقا للأصول العاجلة على المرتكبين، وأسماء بعضهم وارد في التقرير الجنائي الذي أعدته شركة "ألفاريز آند مارشال" لكنه لم يفعل

جدير بالذكر، أن توظيفات المصارف الإلزامية بالدولار لدى مصرف لبنان هي إيداعات فرض مصرف لبنان على المصارف تكوينها لديه بقرار مخالف للقانون بعد مؤتمر "باريس-2" بتفسير مشوه بوضوح للمادة القانونية التي استند إليها هذا القرار. وكان يتوقع من منصوري، وهو رجل قانون، أن يتيقن منذ البداية بأن الأصول تقضي بتصفية هذه التوظيفات غير القانونية فورا وإعادتها إلى أصحابها الحقيقيين، أي المودعين بالدولار قبل 17 أكتوبر/تشرين الاول 2019.

أ.ب.
منصوري خلال مؤتمر صحافي في 25 أغسطس 2023. يومها دعا الطبقة السياسية في البلاد إلى تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية والمالية بسرعة محذرا من أن البنك المركزي لن يقرض الدولة أموالا ولا يخطط لطباعة النقود لتغطية العجز الضخم

أيضا، كان يتعين على المصارف المراسلة التيقن منذ البداية من سلامه عن الوضع القانوني للأموال التي أودعها إياها مصرف لبنان نتيجة هذه التوظيفات، والضغط لتصحيح الانحراف تحت طائلة اعتبارها شريكة بالإثم.

المحاسبة في مهب الريح

ولا يتوقف منصوري عن ترداد أن خروج لبنان من أزمته الاقتصادية العميقة يتطلّب بداية المحاسبة من خلال القضاء، ويشير في هذا المضمار إلى أنه قام بما عليه وقدم كل المستندات التي يطلبها الأخير من مصرف لبنان، لكنه تغاضى عن أمر مهم جدا، وهو أنه منتدب قانونا بالادعاء شخصيا من خلال النيابة العامة ووفقا للأصول العاجلة على المرتكبين، وأسماء بعضهم وارد في التقرير الجنائي الذي أعدته شركة الاستشارات "ألفاريز آند مارشال" عن مصرف لبنان. لكنه لم يفعل. كذلك، لم تنته الإحالات على الهيئة المصرفية التي هي هيئة قضائية لدى مصرف لبنان  ويرأسها منصوري شخصيا في الوقت الراهن، بقرارات زاجرة تقضي بتعيين مدير موقت إلا في حالات معدودة أقل من عدد أصابع اليد الواحدة، مع محاولات لتسوية الأمور وديا.

ماذا عن التحويلات غير الأخلاقية؟

وهذا نقيض ما أقدمت عليه جمهورية أيسلندا بعد أيام معدودة من الأزمة، حيث أحالت عشرات المصرفيين المرتكبين إلى القضاء، فصدرت الأحكام السريعة بالزج بهم في السجن وبمصادرة ممتلكاتهم، مما دفع هؤلاء إلى اطلاق عمليات رد واسعة من أموالهم حتى من الملاذات الضريبية، استخدمت في إيفاء المودعين حقوقهم، فساعد الأمر على إخراج بعضهم من السجن، وكانت النتيجة تباهي قادة أيسلندا في المنتديات الدولية بإعادة تظهير بلادهم على أنها دولة قانون، مما أدى إلى عودتها سريعا إلى الأسواق المالية الدولية وتسجيلها معدل نمو لم تبلغه إلا قلة معدودة من الدول، فاق الـ7 في المئة بعد سبع سنوات من انفجار الأزمة. 

الطامة الكبرى كانت غض النظر عن إيفاء المقترضين من المصارف بالدولار، أو تحويل قروضهم بالدولار إلى الليرة اللبنانية على أسعار صرف منخفضة، على نحو يضر بمصالح المودعين، وذلك بتفسير مشبوه وقاصر لمفهوم القوة الابرائية لليرة اللبنانية

وتضمنت خطة منصوري أيضا للخروج من الأزمة، دعوة المسؤولين إلى وضع برنامج واضح لمعالجة أموال المودعين، علما أنه كان ممن غطوا تبديد قسم مهم من هذه الأموال، فقد سبق له أن اعتبر مع زملائه في حاكمية مصرف لبنان في أغسطس/آب 2020 التحويلات التي قام بها مصرفيون ونافذون وأصحاب حسابات ائتمانية وغيرهم إلى الخارج، بعد إعلان المصارف تقييد السحوبات والتحويلات المصرفية ضمن سقف معين، تحويلات قانونية لكن غير أخلاقية.

.إ.ب.أ
الحاكم السابق رياض سلامة (في الوسط) يودع موظفي مصرف لبنان في آخر يوم عمل له في 31 يوليو 2023.

من هنا كان حثهم المشبوه على إعادة قسم من الأموال المحولة إلى حسابات دولار جديدة تفتحها المصارف، لا إلى حسابات الدولار القديمة التي تخضع السحوبات منها للتقييدات الإدارية الصارمة كما تقضي الأصول. وكان هناك مؤخرا اقتراح من منصوري يقضي بإخضاع هذه التحويلات إلى ضريبة بأثر رجعي، وهو مشروع يعطيها، في حال اعتماده، شرعية غير مقبولة، بدلا من أن يكون الحل في ملاحقة المصارف المخالفة أمام الهيئة المصرفية العليا وأمام القضاء بعقوبات الإفلاس التقصيري، كما ملاحقة من قاموا بالتحويلات، التي تقدر بأكثر من عشرة مليارات دولار، بعقوبات الإثراء غير المشروع.  

استمرار قضم الودائع وقهر المودعين

الطامة الكبرى كانت غض مصرف لبنان النظر عن إيفاء المقترضين من المصارف بالدولار أو تحويل قروضهم بالدولار إلى الليرة اللبنانية على أسعار صرف منخفضة على نحو يضر بمصالح المودعين، وذلك بتفسير مشبوه وقاصر لمفهوم ومقتضيات القوة الابرائية لليرة اللبنانية، يخالف قرارات قضائية وشروحات قانونيين غربيين كبار بإلزامية الوفاء بالعملة الأجنبية عند التعاقد بها على الرغم من وجود نص قانوني يتحدث عن القوة الإبرائية للعملة الوطنية. وتقدر قيمة القروض بالدولار المعنية بنحو 30 مليار دولار.

قدر مفوض الأمم المتحدة لشؤون الفقر وحقوق الإنسان، أوليفييه دو شوتر، مجموع فوائد "الهندسات المالية" بـ 10 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي

والمستهجن، تركيز منصوري في إطلالاته واقتراحاته بخصوص "تنقيح" الودائع وقضمها بسبل شتى بدلا من تعويضها بعد حجزها ردحا من الزمن، منها اقتراح شطب الفوائد التي تتعدى قيمتها 1 في المئة، علما أن معدلات الفوائد في منطقة الشرق الأوسط خلال العقود الماضية، ومنها تركيا ومصر، كانت هي نفسها في لبنان، وتتراوح بين الـ 5 و7 في المئة. وكان المطلوب التركيز أكثر على معدلات فوائد "الهندسات المالية" التي وصلت، باعتراف أحد السياسيين الذين شاركوا بها، إلى 30 في المئة. وقدر مفوض الأمم المتحدة لشؤون الفقر حقوق الإنسان، أوليفييه دو شوتر، مجموع فوائد هذه الهندسات بـ 10 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. 

هناك أيضا تساؤل عن سبب إغفال الاقتراحات، التدقيق في مشروعية عمليات عديدة ومتنوعة قامت بها المصارف في المقابل خلافا للقانون خلال العقود السابقة، وأفرزت زيادة رؤوس أموالها من أقل من 300 مليون دولار إلى أكثر من عشرين مليار دولار.

فشل في إرساء الشفافية

وعد منصوري وزملاؤه بتحقيق شفافية كبرى في البيانات المالية التي يصدرها مصرف لبنان، لكن الامر لم يتحقق، ويمكن لأي مرء التيقن من ذلك من خلال مقارنة بيانات مصرف لبنان المالية الأخيرة مع بيانات المصرف المركزي الأوروبي لسنة 2023. فالأخيرة توضح بشرح واف يفهمه المواطن العادي، مقدار الخسارات المسجلة وأسبابها، فيما يغيب ذلك في ما خص البيانات اللبنانية.

يبقى الأمر الأهم والخطير، إحجام منصوري وزملائه عن رفع الصوت عاليا ضد ممارسات يقوم بها السياسيون وقوى الأمر الواقع

يبقى الأمر الأهم والخطير، إحجام منصوري وزملائه عن رفع الصوت عاليا ضد ممارسات يقوم بها السياسيون وقوى الأمر الواقع، تنفر المستثمرين وتحرم اللبنانيين من العملات الصعبة التي هم في أشد الحاجة إليها راهنا، آخرها ضرب الموسم السياحي في لبنان نتيجة إطلاق "حزب الله" بقرار منفرد، عمليات عسكرية سميت "المشاغلة والمساندة" لقطاع غزة من جنوب لبنان.

إقرأ أيضا: الرابع من أغسطس... و"دوامة الضربات"

قد يستهجن البعض هذا الكلام على أساس أنه لا يحق لموظف مهما علا شأنه أن يوجه انتقادا أو تحذيرا علنيا الى مسؤول سياسي منتخب من الشعب أو الى زعيم سياسي يتكلم باسم شريحة واسعة من المواطنين. الرد على ذلك هو أن المصرف المركزي المعاصر مكلف تأمين سلامة النقد وضبط معدلات التضخم عند مستويات دنيا تعزز معدلات النمو والعمالة، وهو لذلك معني بلفت انتباه المسؤولين السياسيين إلى الانعكاسات السلبية لقراراتهم على مهامه.

.إ.ب.أ
الحاكم السابق، رياض سلامة، يودع الموظفين في البنك المركزي في آخر يوم عمل له العام الماضي، 31 يوليو 2023.

والتاريخ يسجل بزهو مواقف مشرفة لحكام مصارف مركزية ضغطوا على حكوماتهم في قضايا سياسية بحتة، أمثال الفرنسي إميل مورو، والأميركي بول فولكر، والألماني هيالمار شاخت، الذي كان أول من تجاسر ورفع الصوت عاليا منتقدا قرار الزعيم النازي تشجيع انضمام النمسويين إلى ألمانيا على أساس تقديم سعر صرف مجز لعملتهم إزاء المارك الألماني. كذلك فعل الكندي مارك كارنييه الذي لفت، أثناء توليه حاكمية بنك انكلترا، نظر رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون إلى أخطار انسحاب بلاده من اتفاقية الـ"بريكست"، وعندما لم يستجب جونسون لتحذيره قدم استقالته حتى لا يبقى شاهد زور على تبعات ذلك.

font change

مقالات ذات صلة