سنة أولى تقاعد

سنة أولى تقاعد

كان شعوري السابق تجاه التقاعد من العمل حياديّا تماما، أو ربما أنه كان من قبيل اللا مفكر فيه، بحيث لا تستطيع أن تحكم عليه بحُسن أو قبح، ولا أن تمدحه أو تذمه. ربما أن هذه الفكرة أتت إليّ لشبهها بفكرة الموت عند هايدغر، لا تعرفه حتى تذوقه، حتى وإن تقاعد البشر كلهم أو ماتوا كلهم.

في الثقافة الهندية ثمة مصطلح بديع للغاية يسمونه "التقاعد من العالَم" ويُقصد به لحظة وجودية تأتي في آخر العمر، يخرج فيها المتصوفون من حياتهم العادية فيودّعون الزوجات والأولاد وكل حيواتهم السابقة، ليتجهوا إلى قمم الجبال والمعابد، لكي يولدوا من جديد في بحث عن معنى جديد للوجود بعد تحقق حالة صفاء ذهني استثنائي.

لكن تقاعدي وقع الآن وانسابت معه مشاعر غير مفهومة. ليست بهيجة ولا حزينة، فقط غريبة وغير مفهومة بالمرة وربما يشوبها شيء من قلق لا يتجه إلى موضوع محدد. في نهاية السنة الدراسية الماضية أقام زملائي في المدرسة حفلا وداعيا ابتهجتُ به للغاية واحتفلت مع المحتفلين، مع أن بعضهم أسرّ لي بقوله: لا يبدو عليك أنك تدرك أنك قد تقاعدت.

كان محقا. لم أكن أملك تصورا صحيحا، سوى ما كان في خصوص الحسابات المالية والربح والخسارة في هذا الجانب. لكن خسارة العمل ليست محصورة بما تخسره من مال. بل عرفتُ من الناس من يكاد يموت ألما لأنه لم يعد يعمل. هذه ليست مشكلة في هذه الفترة بسبب الابتهاج باللحظة الأولى. ولكن لن يمنعني هذا من القول إن التقاعد قفزة في الظلام، لا تدري ما ستواجه، ولا تعرف هل ستكون راضيا أم لا.

بدأت أدرك أن المتقاعد يشبه الرقيق الذي نال حريته أخيرا لكنه لا يدري ماذا سيصنع بهذه الحرية

في الأيام الأولى من الإجازة الصيفية التي ستمتد هذه المرة وتندمج في حياة التقاعد، كنت مسرورا بأنه لم يعد هناك جرس إيقاظ يعلن وقت الذهاب إلى العمل، جرس الإيقاظ الذي يكرهه كل الموظفين، ذلك الرنين المزعج الذي يفجع القلب، خصوصا بعد عيشك ليلة أرق لم تنم فيها جيدا. وهذا الجرس المؤذي يعلن أنه يتعيّن عليك النهوض، حتى وإن كنت غير راغب في ذلك. تأمين النوم هو أولى جوائز التقاعد، لا يصبح مشكلة على الإطلاق، يأتي متى شاء ويذهب متى شاء، ولا تعود تقول لنفسك إنه يجب أن تنام مبكرا حتى وإن كنت غير راغب، لأن لديك موعد عمل.

لكنني ككائن نهاري وجدت في ما بعد أنني محاصر بنهار الصيف الطويل الذي لم يكن هناك ما يخرمه سوى الذهاب إلى النادي الرياضي، أو العودة إلى القراءة وحفظ المسلسلات التلفزيونية. ثم وصلت إلى فكرة، بما أننا في الصيف، فلا بأس في تأخر ساعات النوم واليقظة. أين يمكن أن يذهب المتقاعد في صباح صيفي حار لا تستطيع فيه أن تسير في الشارع في السابعة صباحا لشدة الحر؟

مع تعاقب الأيام كان من الضروري أن أنظر في هذه الحياة الجديدة. كل القوانين والأنظمة الخاصة التي كتبتها لنفسي والتزمتها زمنا طويلا لم تعد ضرورية. يبدو الأمر خروجا حقيقيا من حياة إلى حياة. وهذا الانتقال يعني ثورة تشريعية داخلية تنظيمية خاصة. كثير مما كنت أحرّمه على نفسي بات حلالا. أصبح من الممكن الآن الذهاب إلى صالات السينما بعد منتصف الليل إن رغبت في ذلك، أو السهر مع الأصدقاء في منتصف الأسبوع، وهكذا بدأت أدرك أن المتقاعد، في سنته الأولى، يشبه الرقيق المستعبد الذي نال حريته أخيرا بعد عمر طويل من العبودية، لكنه لا يدري ماذا سيصنع بهذه الحرية.

font change