في الفارق بين ردود الفعل على مصرع مئة مدني فلسطيني في مدرسة "التابعين" في غزة، وتلك التي أعقبت اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" إسماعيل هنية والقيادي في "حزب الله" فؤاد شكر، تكمن مأساة هذه المنطقة: ما قيمة الإنسان المدني العادي؟ وما موقعه في صراعات تزداد دوافعها غموضا وابتعادا عن الواقع؟
اغتيال هنية وضع في سياق انتهاك إسرائيل للسيادة الإيرانية والتصعيد في الحرب من أجل استعادة الردع الذي انهار مع عملية "طوفان الأقصى". فالرجل اغتيل بعد ساعات من مشاركته في حفل تنصيب الرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان واجتماعه بالمرشد علي خامنئي. وهذه، لعمرك، صفعة مدوية لكل البنية الأمنية الإيرانية في بلد مهووس بالأمن والاستخبارات وينفق المليارات على أجهزته وقواته في ظل أزمة اقتصادية خانقة يعاني منها المواطنون الإيرانيون. وهذا يتطلب ردا قاسيا، على ما أفتى المتحدثون باسم الحكومة و"الحرس الثوري" وغيرهما من مؤسسات الحكم في طهران.
هناك بعض نقاط التشابه بين اغتيال هنية ومقتل شكر. فالأخير كان الرجل الأول– على ما يقال– في "المجلس الجهادي" الذي يضم القيادات العسكرية والأمنية لـ"حزب الله". إضافة إلى ذلك، هو المستشار العسكري للأمين العام لـ"الحزب"، حسن نصر الله. واستهدفته مسيرة في شقة لم يكن معروفا أنه يقيم فيها، في الضاحية الجنوبية لبيروت. وساد اعتقاد بأن اغتيال شكر بالطريقة هذه يحمل رسالة إلى المسؤولين الآخرين في "حزب الله" مفادها أن أيا منكم ليس في أمان، ما دامت إسرائيل قد اغتالت كبيركم. وهذه فعلة تستأهل الإدراج على دفتر الحسابات المفتوح بين "محور الممانعة" من جهة و"الشيطانين" الأكبر والأصغر (الولايات المتحدة وإسرائيل) ومن بينهما من "صهاينة الداخل" اللبنانيين، من جهة ثانية.
ضمن هذا المنطق من المحاسبة وجداول التصفيات والثارات المفتوحة، يبدو أن لا قيمة لضحايا القصف الإسرائيلي على مدرسة "التابعين" أو من يشبههم من المدنيين الذين يسقطون كل يوم في غزة ولبنان، ويصنفون في إطار "الضحايا الجانبيين".
وفي المقابل، تقيم إسرائيل نظريتها الثأرية على أساس المحاسبة على قتلاها من المدنيين. فعلت ذلك في ردها على هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول الذي قالت إن المدنيين الإسرائيليين الذين قتلوا فيه يزيد عددهم على الألف. وكررته في اغتيالها فؤاد شكر الذي حملته مسؤولية إطلاق الصاروخ على بلدة مجدل شمس في الجولان السورية المحتلة، حيث سقط 12 طفلا من السكان الذين يعتبرون أنفسهم مواطنين سوريين ويرفض أكثرهم الحصول على الجنسية الإسرائيلية. بل يمكن الذهاب أبعد من ذلك والقول إن علة وجود إسرائيل ترتبط بعدم تكرار "الهولوكوست"، أي التدمير المنهجي للمجتمع الإسرائيلي. وهذا ما لا نرى شبيها له في أدبيات الجانب المقابل لإسرائيل، من حرص على المدنيين وعمران مجتمعاتهم. بل إن العكس هو الصحيح حيث "الشهداء بالملايين" ينتظرون إشارة القائد الملهم.
عليه، ما هي مادة هذا الصراع؟ من أجل مَن أو ماذا يدور القتال بالضبط؟ هل هو من أجل استعادة حقوق الشعب الفلسطيني المؤلف من أفراد ينتمي إليهم الضحايا الذين قتلوا بالقصف الإسرائيلي على المصلين وهم يؤدون صلاة الفجر في مدرسة "التابعين" أم هي حرب بالنقاط بين إيران وإسرائيل، قوامها انتزاع الردع والمبادرة العسكرية وتوازن الرعب؟ أم هي مزيج من العناصر المذكورة أعلاه شرط أن لا يتأثر الوضع الداخلي في إيران وسوريا على ما رأى حسن نصرالله؟
ما هي مادة هذا الصراع؟ من أجل مَن أو ماذا يدور القتال بالضبط؟ هل هو لأجل استعادة حقوق الشعب الفلسطيني أم حرب بالنقاط بين إيران وإسرائيل، قوامها انتزاع الردع والمبادرة العسكرية وتوازن الرعب؟
الفهم البسيط– والحل الصحيح هو الأبسط بحسب قاعدة "نصل أوكام" أو "شفرة أوكام"- يقول إن مادة الصراع هي حقوق الشعب الفلسطيني المنتزعة، ومن ضمنها حقه في أن لا يتعرض للقتل أثناء أداء الصلاة وأن لا يحرم من الطبابة والغذاء والماء النظيف ناهيك عن الحريات كافة التي تنص عليها المعاهدات الدولية التي ترعى العلاقات بين البشر. وأن الاقتراب من استعادة هذه الحقوق هو الطريق السليم للحل في فلسطين. أما الإفراط في الرمزيات الدينية والدنيوية التي تسبق حياة البشر، فهذا اضطراب عميق في رؤية على ماذا يدور الصراع منذ مئة عام، وعلى ماذا سفكت كل هذه الدماء ودفعت الأثمان الباهظة التي أفضت في كثير من الأحيان إلى تدمير فرص التنمية والازدهار وأوقعت دولا عربية عدة في قبضة الديكتاتوريات العسكرية وقادتها.
وبديهي أننا لن نعود إلى ما أدلى به أحد مسؤولي "حماس" عندما سئل عن سبب عدم بناء ملاجئ للغزيين تحميهم من القصف الإسرائيلي، حيث رأى أن هذه مسؤولية الأمم المتحدة لا الحركة، على الرغم من أن الرؤية المقلوبة للصراع تتكثف فيه وتجعل الأولوية لسلامة المقاتلين والمسؤولين العسكريين والسياسيين، وليست حياة المدنيين الذين يدفعون في كل مرة من أرواحهم أثمان قرارات غير مبررة. فهذا نقاش لن يفضي إلى نتيجة ما دامت حياة هنية أو شكر أهم من حياة نحو أربعين ألف إنسان قتلوا في غزة.
لكن المسألة هنا: أين يكمن المعنى الحقيقي للصراع بين إسرائيل والفلسطينيين؟ ولماذا بعض الأفراد يستحقون أن يُطلب ثأرهم فيما لا يستحق الآلاف سوى بيانات الاستنكار؟ ولماذا تركز إسرائيل على أن هدفها "حماية مواطنيها" فيما تدخل الأساطير والقيادات الحزبية كعناصر لبناء رواية الصراع من الجانب الفلسطيني واللبناني؟