قبل سنوات، في 2007، أعلنت مجلة "تايمز" الأميركية عبر كاتبها الصحافي دونالد موريسون "موت الثقافة في فرنسا"، مسجّلا، بين أمور عديدة، أن من بين مئات الروايات التي تُنشر كل عام في فرنسا، فقط نحو اثنتي عشرة منها تُترجم إلى الإنكليزية، والأمر ذاته بالنسبة إلى السينما والفن.
كانت تلك نظرة مأسوية للثقافة في فرنسا، وأثارت في حينه سجالا واسعا بين المثقفين الفرنسيين، كما حين أصدر موريسون عام 2010 كتابا يحمل العنوان نفسه، فهل فقدت الثقافة الفرنسية دورها الطليعي في العالم، ولم يعد لها التأثير العالمي السابق كما كان في القرن الماضي أم أن العالم تغيّر، ومعه تلقّي المنتج الثقافي، والأمر يتعدى أوروبا إلى القارات الأخرى؟
لعلّ هذا الحكم على الثقافة الفرنسية لا يزال صالحا في وقتنا هذا، وأحد أسباب ذلك هو أن فرنسا، ولّادة الجديد، وهي في ذلك تتجاوز متطلبات الجمهور العريض، فالرواية عرفت تقلبات وانقلابات، إلى درجة أننا كل نحو عشر سنوات، نجد "الرواية الجديدة"، أو "الشعر الجديد"، أو "السينما الجديدة"، إلخ، فما أن تغامر بشكل، حتى تنتقل إلى آخر، ولعلّ هذه التجاوزات الدائمة شكّلت تراكمات أتعبت القارئ، وجعلته متردّدا أمام هذا الجديد الموصول.
ونظنّ أن تكاثر "الإشكالات"، بجديدها المتحوّل دائما، حال دون إنضاج تلك المحاولات، وعلاقتها بالقارئ. فالثقافة الفرنسية أنتجت أيضا فلاسفتها الجدد، وكانت كارثية، بسبب مستوياتهم الهشّة ويمينية بعضهم الفاقعة وسطحيتهم السياسية، لكن جعبة الفرنسيين لم تكن لتخلو من قضايا فكرية وفنية وأدبية متجدّدة، مما كان يفتح لها أبواب القرّاء العالميين، وإذا راجعنا "لوائح" الصحافي الأميركي سينمائيا وروائيا وفنيا، لوجدنا أنه يقيس الثقافة بعوامل السوق والكمّ لا النوع، أي بعلاقتها بالمستهلك، وهذا أمر يتجاوز بطبيعة الحال ثقافة أو لغة بعينها.
ما تعيشه فرنسا كأنما يعيشه العالم كله الذي فَقَدَ بوصلته وغرق في الظواهر العنصرية والرجعية والعنف
فإذا تتبعنا هذا المنوال فسنجد أن هوليوود نفسها فقدت صلاحيتها، وباتت في الغالب منتجة أفلام تجارية ونمطية، بعدما كانت تخرّج كبار المخرجين والممثلين والكتّاب. وفي مجال الشعر مثلا نجد أن الولايات المتحدة سجّلت منذ عدة سنوات عودة إلى الشعر الخطابي والتقليدي، تحت شعار تعزيز علاقة الشعر بالقضايا السائدة واليومية، ولكن بلغة الماضي.
نتابع جميعا منصات إنتاج الأفلام مثل "نتفليكس"، التي تحاول تقديم إنتاجاتها في التلفزيون والمواقع أولا ثم في صالات السينما، وقد اعتبر كثر أن هذه الطريقة تدمّر جوهر السينما. فأميركا السينما الطليعية انتهت، وقد تلتحق بها الصالات وكذلك الرواد. تصبح السينما بلا شاشاتها الفضيّة، جزءا من منطق "المواقع الإلكترونية" والشبكات التلفزيونية...وإذا باتت السينما الفرنسية بلا جمهور، فماذا عن السينما الإيطالية والإسبانية والإنكليزية بعمالقتها من مخرجين وممثلين، فما تعيشه فرنسا، كأنما يعيشه العالم كله الذي فَقَدَ بوصلته وغرق في الظواهر العنصرية والرجعية والعنف، كأنما صار هذا العالم من دون أفكار ولا أحلام ولا مخيلات خصبة ومغامرات إبداعية. كأنه استنفد تاريخه ليختزله باللاتاريخ والحروب والكراهية، التي أفقدته قيمه الفكرية والفلسفية والسياسية، عالم العنف والاستغلال وإمبراطوريات شركات التكنولوجيا.
من هنا نقول إن الكتّاب والفنانين، وحتى الفلاسفة، محاصرون بهذه الظواهر واليوتوبيات الآفلة وكذلك بطغيان التطور التكنولوجي الجامح الذي بدأ يحلّ محل الإنسان عبر الذكاء الاصطناعي الذي يغزو الشعر والرواية، بل الطب ومعظم المهن البشرية. كأنما بتنا نشعر بأننا دخلنا زمن "ما بعد الإنسان"، الذي حلّت الآلة محلّه أو تكاد.
علينا الانطلاق للبحث في أحوالنا ومآلاتنا ووجودنا وليس فقط عبر تفاصيل من قبيل من ينتج روايات أو أفلاما أو فلسفة
إنه التشيؤ الخطير الذي يمسّ الآداب والفنون، بل كأننا نقول إن المدينة الموروثة، تعاني الضيق والنقص والفراغ، كملعب هرب لاعبوه وتركوه للأشياء والكائنات المصنوعة ولتكنولوجيّتها المندفعة بجنون لا يوصف.
هذه الظواهر الجديدة، هي التي مارست تأثيراتها على الرواية والشعر والمسرح، ولم تمسّ الثقافة الفرنسية فحسب، بل العالم كله بثقافاته وإبداعاته وانتماءاته. عالم ينتمي إلى التكنولوجيا من دون توازن بينها وبين تطور المجتمع، هذا التوازن الذي قام بينهما على امتداد مئات السنوات، وأكثر. إن ترجيح التكنولوجيا على المجتمع هو خرابه وخراب الثقافة والإبداع والحياة.
من هذه النقطة علينا الانطلاق للبحث في أحوالنا ومآلاتنا ووجودنا وليس فقط عبر تفاصيل من قبيل من ينتج روايات أو أفلاما أو فلسفة أو حتى طريقة عيش. فهناك ثقافة جديدة تنجدل خارج الثقافة، وزمن ينعقد خارج التاريخ.
هنا تكمن المعضلة وليس عندنا حلول وأجوبة.