أحسب أن الكاتب ينتظر بدء تداول عمله ليعرف ماذا كتب. يتعلّق ذلك، على وجه الخصوص، بعمله الأول. بل إن ذلك يسري، بنسبة أقلّ، على كل ما سيصدره لاحقا، إذ أن الخبرة لن تفيد كثيرا هنا. علينا أن ننتظر ماذا سيقول القراء إذن لنعرف ماذا كتبنا. ومن هذا رحت أتساءل لماذا بقيت "بناية ماتيلد" حاضرة رغم انقضاء أربعين سنة على صدورها، ولماذا رافقت المعرفة بها كلَّ كتاب أصدرته من بعدها. إجابات كثيرة كانت تأتيني من ذلك، مشوّشة أو غير حاسمة على الأغلب، بنتيجة أنني أكون بذلك قد وضعت نفسي في مكان أولئك الآخرين.
الكتابة والتذكّر
تقول إنك كتبت هذه الرواية كأنك كنت تتذكر. هل يُفهم من هذا أن إنجاز الرواية كان سهلا، والتأليف فيها قليلا؟
كنت أتذكّر، لكن ليس التذكّر الذي يُستدعى فيحضر. قبيل شروعي بالكتابة كان الحنين إلى زمن عيشنا في تلك البناية يملأ نهاراتي. كان ذلك ملاذا من الخوف والقلق من الحرب التي، آنذاك، كانت تذكّر، في كل لحظة، أنها قائمة بتلك الضراوة. كنت أعود إلى زمن نبيهة الشيباني جارتنا، ومدام لور أيضا، وعايدة التي تسكن في الطابق الرابع تحتنا. لأصدقائي الأقربين كنت أقول، مبالغا ربما، أنني أعيش في الماضي ثماني ساعات كل يوم. هكذا بدأت الكتابة، مُهيمَنا عليّ من ذاك العالم الذي كنت غادرته قبل عشرين عاما. أما في ما يتعلّق بكتابته فينبغي إدخال أشياء كثيرة على ذاك الإرث (التذكّر) ما دام أن الكتابة الساعية إلى أن تكون أدبا لن تكتفي بالعاطفة والحنين وحدهما. كان في ذلك قدر من التأليف، لكن التأليف غير الشاق. التأليف السلس الذي منه مثلا إختراع أفعال وأوصاف لم أشاهدها أبدا تحدث، مثل أن يقف عمّي، في أثناء نزوله المسرع على الدرج، ويبدأ بملاكمة الهواء بادئا تمرينه على الملاكمة قبل الوصول إلى النادي. كان ذلك تأليفا، أو اختراعا أحيانا وصفه الصديق الشاعر عباس بيضون آنذاك، في مقال له عن "بناية ماتيلد"، بأنه "تخييل للذاكرة".
هل تعود إلى قراءتها وتصفّحها أحيانا، وماذا تجد فيها؟ هل يخطر لك أن تعيد كتابة أو صياغة صفحات منها مثلا أو أن تتوسع أو تختصر في اتجاه ما؟
أتذكّر أني كنت أقرأها فيما كنت أكتبها. أقصد أنني كنت، بعد قراءة ما كتبته، الذي لن يتعدى الثلاثمئة كلمة، أعيد قراءته بما يتعدّى مراجعته أو تصحيح أخطاء محتملة فيه. كنت أقرأه للاستمتاع به، وبأني أنا كاتبه. بعد ذلك، في ما تلا من السنوات الكثيرة، لم أعد إلى الرواية قارئا لها، أو لبعض ما فيها. ربما أعود إلى تذكّرها، أعني تذكّر مشاهد منها، وبعض جمل حفظتها من بينها ما كان عليّ أن أجيب به عن أسئلة تعلّقت ببعضها مثل "حين وقفتُ على الشرفة الخلفية التي لعمّتي". كثيرا ما سُئلت عن هذه الصياغة من قبل آخرين كان رأيهم أنه كان من الأصحّ أن أقول "حين وقفت على شرفة عمتي الخلفية". لم يعجبني ذلك التصحيح، لأنه عادي وهالك من كثرة التكرار. ثم أن ذلك الاقتراب من الحكي العادي الذي في جملتي فيه قدر من الأُلفة.
أما إن كان خطر لي أن أعيد صياغة صفحات منها، أو أن أتوسّع أو أختصر، فأعفاني من التفكير بذلك الاحتفاء الذي استُقبلَت به. لكن هناك، في آخر الفصول تركيب لمشهدين منهما واحد يصف الانفجار الذي أسقط الدرج وما حوله فأبدى البناية مثل باذنجانة فارغة، ومشهد ابن عمتي وهو يركض حاملا طفله ويكاد سقوط الدرج يُسقطهما إلى الأسفل. هذا التركيب المتسارع للمشهدين ما زلت أحسّه مفتعلا.
بيان روائي
في رواياتك التالية، ظل شيء ما من "بناية ماتيلد". هل يمكن القول إنها كانت أشبه بمانيفستو أو بيان روائي شخصي. أظن أن أسلوبك وجملتك المتباطئة بدأت من هناك واستمرت بطرق مختلفة.
لم يكن في القصد، فيما كنت أكتبها، أن تكون "بناية ماتيلد" بيانا أو مانيفستو أدبيا. الأرجح أنني كنت أكثر تواضعا وتشكّكا من ذلك بكثير. الآن، بعد كل هذا الانشغال الطويل بالكتابة، ما زلت غير ساعٍ إلى أن أُنشئ طريقة أو تيارا أدبيا. حتى الآن أجد نفسي مرتبكا عند صدور كتاب جديد، مترقبا، بكثير من الرهبة، كيف سيجري استقباله. وليس ذلك خاصا بالكتابة وحدها، فأنا لم أدْعُ أحدا، الآن أو في ما سبق، إلى أن يحذو حذوي. وفي ما خصّ الكتابة ما زلت أرى أنها انكفاء ومفعولها أكثر خفاء من أن يُعمل على تعميم أثرها.
نعم، ما زلت أتابع في كتابتي تلك الجملة المتباطئة وأسلوبي، وذلك من دون قرار مني. أتذكر ما قاله شاعر أموي هو الأخطل عن شاعرين معاصرين له هما جرير والفرزدق. قال إنه وجد الأول يغرف من بحر والثاني ينحت من صخر. أنا أنحت من صخر، تلك السعادة التي يحظى بها الكاتب في لحظات استرساله وتدافع الكلمات والأفكار على الورقة أمامه قلّما أعرفها. أرجع ذلك في أحيان إلى أنني أكتب الرواية كما يُكتب الشعر. ولا أضع على الورقة ما يمكن إغفاله أو المرور عليه مرورا عابرا. لكن، على أي حال، هذا هو أسلوبي وهكذا تأتيني الكتابة.
تقول إنك منتسبٌ إلى ما قرأت وليس إلى موجة أو جيل. ما قراءتك وما هو أثرها على كتابتك وأسلوبك؟ ومن أين أتى هذا الميل إلى السرد المتباطئ والعناية الفائقة بكل جملة وكل كلمة؟
لا أعرف إن كانت لا تزال مترسّبة فيّ أفكار عن التجديد الأدبي وتجاوز الإرث السابق إلخ... تلك التي نشأتُ عليها وانا في مطلع الشباب. لكنني الآن أميل إلى القول إنني أستقي معرفتي بالأدب من معايشتي له، أقصد من تفاصيله ومن مسائله التي يطرحها انشغالي فيه. من هذه التجربة الخاصة أعرف ما يعجبني من قول الآخرين فيه وما لا يعجبني. التيارات العريضة الخطوط التي تغري في اتباعها لا أجدني واحدا من جمهورها. كل ما قرأته وأعجبني أثّر بشكل ما في كتابتي. حين كنت أكتب روايتي "أيام زائدة" كنت مقتنعا بأن الأثر الأقوى فيها هو الشعر العربي القديم الذي كنت في تلك الفترة مولعا به وبعودتي إلى قراءته. لا أعرف إن كان ظني هذا صحيحا، لكنني ما زلت إلى الآن أفكّر أن هذا الكتاب (أيام زائدة) أقرب إلى أنشودة أو قصيدة طويلة.