أفلام "البارانويا" التي استحوذت على أميركا منذ "فضيحة ووترغيت"

نظريات المؤامرة انتقلت من الثقافة المضادة إلى اليمين المتطرف

AFP
AFP
صورة تعود إلى أغسطس 1974 للرئيس الجمهوري ريتشارد نيكسون وهو يودع موظفي البيت الأبيض بعد استقالته من الرئاسة في أعقاب "فضيحة ووترغيت"

أفلام "البارانويا" التي استحوذت على أميركا منذ "فضيحة ووترغيت"

إذا وجدت نفسك في إحدى حفلات الشواء الصيفية محاصرا بأشخاص يناقشون نظريات المؤامرة المتعلقة بوجود رقائق دقيقة في اللقاحات أو بتجمّع المتحرشين بالأطفال تحت غطاء مطاعم البيتزا أو دسائس الدولة التي تنبأ بها أشخاص مطلعون في منتديات مشبوهة على الإنترنت، فأنت بلا شك في حضرة مجموعة من مؤيدي نظريات المؤامرة من اليمين المتطرف.

وعلى الرغم من أن هناك استثناءات دائما، فإن الغالبية العظمى من الأميركيين الذين يشاركون في هذه النقاشات يخططون للتصويت لمقدّم برنامج تلفزيون الواقع السابق الذي تعرّض للمساءلة القانونية مرتين، ورجل الأعمال الذي يبيع شرائح لحم مجمدة والذي أُدين اخيرا بـ 34 تهمة جنائية تتعلق بتزوير سجلات تتعلق بدفع مبلغ من المال لإسكات نجمة إباحية.

الثقافة المضادة

في السابق، كانت هذه المناقشات مرتبطة بهبيّي الثقافة المضادة. ومن المؤكد أن هذه الشكوك كانت موجودة عبر التاريخ، فهل رفض بليني الأكبر علامات ثوران جبل فيزوف باعتبارها "أخبارا زائفة"؟ ولكن في الولايات المتحدة، زاد الاهتمام بنظريات المؤامرة بشكل ملحوظ خلال أواخر الستينات والسبعينات. هذه الحقبة، التي تدور أحداثها على خلفية موسيقى جيفرسون إيربلاين وثقافة استخدام الماريغوانا، شهدت انتشار هذه الأفكار ليس من خلال مدوني الفيديو وحسب، بل من خلال أفلام هوليوود أيضا.

زاد الاهتمام بنظريات المؤامرة بشكل ملحوظ منذ اغتيال كينيدي وخلال الستينات والسبعينات

ولم تكن هذه الشكوك بلا أساس. إذ دفعت التناقضات في تحقيق "لجنة وارن" في اغتيال الرئيس جون إف كينيدي (وإطلاق النار على المسلح المتهم لي هارفي أوزوالد، على الهواء مباشرة) المحامي مارك لين إلى تأليف كتابه الأكثر مبيعا في عام 1966 بعنوان "التسرّع إلى الحكم"، الذي أثار شكوكا جدية حول التقارير الرسمية، التي لا تزال قائمة إلى يومنا هذا.

ومع تزايد التدخل الأميركي في فيتنام، بدأ العديد من الأميركيين يشككون في صحة الضربة الفيتنامية الشمالية المزعومة ضد القوات البحرية الأميركية في خليج تونكين، وهي نظرية مؤامرة أثبتت صحتها إلى حدّ كبير بمرور الوقت. ولم يمض وقت طويل حتى كشفت أوراق البنتاغون أن الرئيس ليندون ب. جونسون لم يكن صادقا تماما – إذا عبّرنا عن الأمر بلطف – مع الرأي العام الأميركي في شأن سياساته في حرب فيتنام. وإذا أضفنا بعض الاغتيالات الأخرى، وفي النهاية "فضيحة ووترغيت"، يبدو أنه من المنطقي أن لا يثق الكثير من المواطنين الأميركيين بحكوماتهم.

كان هذا القلق واضحا في كل مكان، بما في ذلك في الفنون. في أوائل السبعينات، غرقت هوليوود في هذا النوع من الأفلام. وأثناء صعود صانعي الأفلام المعروفين باسم "نيو هوليوود" - وهي حقبة عابرة ورائعة طغى فيها التعبير الفني على المكاسب المالية - تعرض رواد السينما فجأة لوابل من الأفلام التي تشير إلى أن من هم في السلطة كانوا قادرين على ارتكاب أفظع الأفعال دون عواقب، وأن العدالة كانت في كثير من الأحيان بعيدة المنال، وأن أي شخص يجرؤ على معارضة النظام يواجه الهلاك الحتمي.

علامات فارقة

أتت الذروة في عام 1974 بثلاثة أفلام، أصدرتها شركة "باراماونت بيكتشرز"، التي كان يديرها روبرت إيفانز، السيء السمعة. كان إيفانز يدير الكثير من أعماله من داخل قصره، وهو مستلق على سريره، وهي عادة غير مقبولة اليوم. مع ذلك، على النقيض من المديرين التنفيذيين التقليديين والبعيدين عن الواقع في الأستوديوهات الأخرى، أثبت نهجه أن "باراماونت" كانت منارة لكلّ ما هو عصري وطليعي وتقدمي.

AFP
فرانسيس فورد كوبولا الذي حصل على جائزة السعفة الذهبية عن فيلمه The conversation 25 مايو 1974 خلال حفل ختام مهرجان كان السينمائي السابع والعشرين

أول فيلم في هذه السلسلة كان "المحادثة" The Conversation من تأليف وإخراج فرنسيس فورد كوبولا، الذي فاز بجائزة السعفة الذهب (المعروفة آنذاك باسم غران بري أو الجائزة الكبرى) في "مهرجان كان السينمائي" في ذلك العام. يؤدّي جين هاكمان دور خبير مراقبة طُلب منه في البداية التقاط الأدلة الصوتية لخيانة زوجية. مع ذلك، سرعان ما بدأ يشك في أن الوظيفة مرتبطة بشؤون تجارية مهمة، بل وربما عملية اغتيال. "المحادثة" هو واحد من تلك الأفلام التي تجعلك مشدود الأعصاب، حيث الموضوع الرئيس هو عدم اليقين الدائم لدى المشاهد في شأن الطبيعة الحقيقية للأحداث. يستخدم كوبولا ببراعة أحدث التقنيات في ذلك الوقت لخلق واقع غامض ومجزأ.

في أواخر يونيو/حزيران، صدر فيلم "الحي الصيني" Chinatown لرومان بولانسكي، الذي سرعان ما غدا أحد أكثر الأفلام شهرة في القرن العشرين. الفيلم، الذي تألق في بطولته جاك نيكلسون، عبارة عن استكشاف عميق للجشع والفساد وإخفاقات النظام الأميركي. وقد لقيت العبارة الأخيرة في الحوار "انسَ الأمر يا جيك، إنه الحي الصيني،" على الفور صدى كبيرا لدى القدريين وأعضاء حركة الثقافة المضادة الذين خاب أملهم وهم يرون قادتهم السياسيين يقعون صرعى اغتيالات أودت بحياتهم وأدت إلى صعود المذهب النيكسوني. وسرعان ما شهد حراك الشباب الذين كانوا ناشطين سياسيا بشكل متكرر تغييرا فوريا بعدما أنهت جرائم القتل التي ارتكبتها عائلة مانسون بشكل مفاجئ المشهدَ الاجتماعي النابضَ بالحياة في لوس أنجليس (للمزيد عن تأثير هذه الجرائم على نشأة فيلم الحي الصيني، يمكن الاطلاع على كتاب سام واسون "الوداع الكبير" الذي يسرد الأحداث المأسوية لجرائم عائلة مانسون، بما في ذلك مقتل شارون تيت، زوجة رومان بولانسكي، وكيف أوحت بقصة فيلم "الحي الصيني" حتى قبل اختيار رومان بولانسكي لإخراجه).

بين هذين العملين الكبيرين، صدر فيلم لعله الأقل شهرة ولكنه، في رأيي، الأكثر تطرفا وهو فيلم "المشهد المنحرف" The Parallax View. يبدأ فيلم آلان جي باكولا، الذي يؤدّي دور البطولة فيه وارن بيتي، وجه اليسار المثالي في هوليوود، باغتيال سياسيٍ لعضو مستقل في مجلس الشيوخ في سياتل. على الرغم من أن الجاني لوحق حتى وقع عن سطح بناء قيد الإنشاء ومات على الفور، فإن المزيد من الشهود على عملية القتل ينتهي بهم الأمر بالموت. وبينما تقوم الشخصية التي يؤديها بيتي، وهو مراسل صحافي يكافح للتغلب على شياطينه الشخصية، بالتحقيق في هذه الوفيات، فإنه يكشف عن قوة خبيثة غامضة ومنظمة بعمق مكرسة للحفاظ على الوضع الراهن.

أنهت جرائم القتل التي ارتكبتها عائلة مانسون بشكل مفاجئ المشهدَ الاجتماعي النابضَ بالحياة في لوس أنجليس

ليست حبكة هذا الفيلم سوى لمحة تشير إلى حقيقة شريرة، وهي أن الولايات المتحدة دولة تجسس حيث تبذل حكومتها جهودا جبارة لإخفاء أسرارها، حتى أنها ستنشئ قوة شرطة سرية تعرض عناصرها لغسيل دماغ لقتل مواطنيها. إن نغمة الفيلم، المعززة بالتصوير السينمائي المبتكر لجوردون ويليس واستخدام المساحة السلبية، تجعل هذا الفيلم المثير للقلق أكثر إثارة للرعب من معظم أفلام الرعب. هناك مشهد بارز يظهر بيتي وهو يتسلل إلى مركز تجنيد للعمليات الخاصة، وهو مشهد مدته ست دقائق يمثل ذروة البارانويا في سينما السبعينات، ويمكن أن يكون بمفرده فيلما قصيرا مثيرا يعرض في متحف للفن الحديث.

فضيحة ووترغيت

كان فيلم باكولا التالي، وهو عن "فضيحة ووترغيت" وتداعياتها، بعنوان "كل رجال الرئيس" وقد لعب الفيلم على فكرة التستر الحكومي وجعلها أكثر واقعية بعض الشيء (قام ببطولته روبرت ريدفورد، وهو بطل فيلم إثارة آخر من أفلام البارانويا وهو Three Days of the Condor، وداستن هوفمان، الذي سيكون مشروعه التالي، رجل الماراثون Marathon Man، مناسبا لإدراجه ضمن هذا النوع من الأفلام).

AFP
الرئيس ريتشارد نيكسون (وسط الصورة) يلتقي زعيم الأقلية في مجلس النواب جيرالد فورد (الثاني يمين)، وآخرين في غرفة مجلس الوزراء، في البيت الأبيض في واشنطن عام 1971

قد تكون "فضيحة ووترغيت" وتورط الرئيس ريتشارد نيكسون بها هما السبب في النقلة التي أدّت إلى تغير طبيعة نظريات المؤامرة. ومع تقدم عقد السبعينات، بدأت أفكار العصر الجديد تكتسب شعبية في الثقافة الأميركية. ولدينا أمثلة كثيرة عن ذلك. خذ مثلا المسلسل التلفزيوني "بحثا عن... In Search of… الذي قدّمه ليونارد نيموي، والذي تناول مواضيع غامضة وخارقة للطبيعة، أو كتب جين روبرتس، مثل "Seth Speaks"، حيث ادعت أنها تتواصل مع روح تدعى Seth وتشارك رسائله. وأخيرا ثمة البرنامج الإذاعي "قلوب الفضاء" لستيفن هيل والذي دأب، منذ 1973، على تقديم الموسيقى المريحة والمهدئة لموازنة الطبيعة المحمومة والسريعة الوتيرة في الحياة العصرية. ولم تكن هذه الحركة تتعلق بالسياسة الخارجية بقدر ما بالنمو الداخلي. باختصار، ربما كانت عمتك المجنونة تؤمن حقا بوجود الأجسام الطائرة المجهولة، ولكن لا يزال بإمكانك تناول وجبة عيد الشكر معها دون وقوع أي حادث.

لكن شيئا ما تغير في نهاية المطاف. وإذا أردنا أن نستند إلى السينما لتبيان ذلك، يمكننا ملاحظة تحول كبير في فيلم "حياة اليقظة" (Waking Life) للمخرج ريتشارد لينكلاتر عام2001، الذي يعرض فلسفة الشارع، وهو في ذلك يتابع ما بدأه في العام 1990 في تحفته الرائعة "سلاكر" Slacker، الذي أتاح لمجموعة من غريبي الأطوار في أوستن، تكساس، مشاركة أفكارهم أمام الكاميرا. وفي أحد مشاهد حياة اليقظة المثيرة للاهتمام تُعرض شخصية تلفزيونية محلية يدعى أليكس جونز، الذي سيصبح بعد ذلك شخصية إعلامية سيئة السمعة بسبب نشره أكاذيب مضللة حول أحداث 11 سبتمبر/أيلول، ومن بعدها مذبحة ساندي هوك (ولسوف يدان في المحكمة بسبب القضية الأخيرة).

صُمِّم المشهد ليكون فكاهيا، حيث يتحول وجه جونز إلى لون أحمر غريب، مما يزيد التأثير الكوميدي. في المشهد، يصرخ جونز في الغالب بأفكار جامحة وبارانوية، حتى يبدو المشهد سخيفا ويصعب تصديقه. في البداية، يبدو أن أحدا لن يأخذ صراخه على محمل الجد. ومع ذلك، عند الفحص الدقيق، فإن محتوى المشهد يحمل تشابها قويا مع الشعارات الغامضة والخادعة التي دعمت ونشرت نظريات مؤامرة "كيو آنون" QAnon لسنوات. يسلط هذا الإدراك الضوء على كيفية تأثير الأفكار التي تبدو سخيفة في بعض الأحيان على حركات أكبر وأخطر وتغذيها.

 قد تكون "فضيحة ووترغيت" وتورط الرئيس نيكسون بها هما السبب في النقلة التي أدّت إلى تغير طبيعة نظريات المؤامرة

في ذلك الوقت، بدا المشهد مع أليكس جونز جزءا غير ضار من الترفيه باستخدام الميكروفون المفتوح ومع ذلك، إذا نظرنا إلى الوراء، فهي الآن بمثابة علامة تحذير مبكر للتأثير الأكثر جدية وخطورة الذي سيتمتع به جونز لاحقا. ريتشارد لينكلاتر، صانع الأفلام، لا يرتبط بمعتقدات يمينية متطرفة ولكنه عمل مع جونز مرة أخرى في عام 2006 في فيلم "انعكاسات مظلمة" A Scanner Darkly، ثم نأى بنفسه، منذ ذلك الحين، عن جونز، موضحا في عام 2017: "لقد أحببت طاقته، لكنه لم يكن بالنسبة لي أكثر من مزحة".

لسوء الحظ، لم يجد كثرة من الناس الأمر مضحكا، بل كانوا يبدون اهتماما شديدا ويدوّنون الملاحظات. ثم على مر السنين، بدأوا بمتابعة شخصيات مشابهة لجونز ممن كانوا يقلدون أسلوبه حتى وصل بهم ذلك إلى مبنى الكابيتول الأميركي في 6 يناير/كانون الثاني 2021. قد يبدو هذا الكلام من قبيل الحنين، لكن المرء يتوق إلى الأيام التي كان فيها التعامل مع نظريات المؤامرة يدور حول الاستمتاع بالتصوير الخيالي الأنيق في الأفلام (مثل رؤية الممثل وارن بيتي في أماكن رائعة وحديثة)، وليس محاولة تمزيق البلاد.

font change

مقالات ذات صلة