أخطار خفض الدولار بحسب "أهواء ترمب"

أصول واستثمارات الصناديق السيادية وعائدات النفط في ميزان إعادة تقييم سعره

Shutterstock
Shutterstock

أخطار خفض الدولار بحسب "أهواء ترمب"

يمكن أن نتصور أنه عندما أصدر مؤسسو الولايات المتحدة الأميركية الدولار في عام 1792، لم يفكروا في أن هناك من سيعمل على خفض أو إعادة تسعير صرفه. لكن هذا الأمر حدث فعلا، ففي عام 1834 خفضت قيمة الدولار من 1,6 غرام ذهب إلى 1,5 غرام ذهب.

تغير هذا التسعير في طبيعة الحال، بمرور الوقت وبعد تجاوز عدد من الأزمات المالية في تاريخ الولايات المتحدة قبل الحرب الأهلية وبعدها وقبل أزمة الكساد الكبير في عام 1929 عندما كانت أونصة الذهب تسعر بـ20,67 دولارا وقد عمل الرئيس الراحل فرانكلين روزفلت على حماية سعر صرف الدولار من خلال إجراءات عديدة في ظل فترة الكساد حتى نهاية الحرب العالمية الثانية.

"بريتون وودز"

بعد نهاية الحرب، عقدت البنوك المركزية الأساسية مؤتمر "بريتون وودز" في ولاية نيوهامبشير في الولايات المتحدة وتعهدت بأن تعمل على شراء أونصة الذهب بـ 35 دولاراً. حدثت تطورات سياسية واقتصادية مهمة بعد ذلك المؤتمر الذي حضره ممثلون من 44 دولة في عام 1944. دفعت الأوضاع الاقتصادية والالتزامات السياسية التي أثقلت كاهل الخزانة العامة الأميركية سعر صرف الدولار الى الانخفاض تدريجياً.

تقدر نسبة قيمة المعاملات التي تحدد بالدولار في التجارة الخارجية بين الدول بنحو 40% من الإجمالي، فيما لا تمثل مساهمة الولايات المتحدة أكثر من 10% من قيمة التجارة الدولية

يمكن الزعم بأن من أهم العوامل التي أدت إلى انهيار نظام "بريتون وودز" هي السياسات التي تسببت بارتفاع معدلات التضخم. يمكن تحديد الفترة من 1958 إلى 1971، حيث ازدادت التوترات في جنوب شرق آسيا وتورطت الولايات المتحدة في الحرب الفيتنامية في محاولة لمنع الشيوعيين في الشمال من السيطرة على جنوب فيتنام.

التحرر من قاعدة الذهب

حرر الرئيس الراحل ريتشارد نيكسون سعر صرف الدولار وألغيت قاعدة الذهب (35 دولارا للأونصة)، لكن الدولار ظل العملة الرئيسة المعتمدة في أعمال التجارة الدولية وبقيت صفقات النفط تحدد بالدولار. وتقدر نسبة قيمة المعاملات التي تحدد بالدولار في التجارة الخارجية بين الدول بنحو 40 في المئة من قيمة المعاملات الإجمالية. في حين لا تمثل مساهمة الولايات المتحدة أكثر من 10 في المئة من قيمة التجارة الدولية.

Shutterstock
الذهب مخزن القيمة في زمن تقلب أسعار الدولار

هناك حاليا عملات منافسة للدولار، تستخدم أيضا في تعاملات التجارة الدولية، أهمها، اليورو والرينمنبي الصيني. في طبيعة الحال، يعتمد استخدام العملات على الدور الذي تلعبه دولة ما في التجارة الدولية، وقد عكفت الصين كما هو معلوم، على توسيع قدراتها التصديرية منذ ثمانينات القرن الماضي، مما عزز  قدراتها على التوافق مع الدول التي تتعامل معها لتسديد قيمة وارداتها بالعملة الصينية. لكن هناك العديد من الدول التي لا تملك سوى الدولار لتسوية حسابات التجارة الخارجية، ولا سيما الدول النفطية التي تتقاضى قيمة صادراتها النفطية بالدولار، وكذلك الحال بالنسبة الى الولايات المتحدة أو كندا أو العديد من دول أميركا اللاتينية.

ترواح العجز في ميزان التجارة من 90 مليار دولار إلى 99 مليار دولار شهرياً خلال الفترة من يناير إلى مايو 2024

مكتب الإحصاء الأميركي

المعضلة الأساس التي تواجه الولايات المتحدة هي تلك التي تتعلق بالعجز في الميزان التجاري وميزان المدفوعات. كانت أميركا تحقق فائضاً أو عجزاً صغيراً في ميزان التجارة الدولية خلال عقدي الستينات والسبعينات من القرن الماضي. منذ منتصف السبعينات، بدأ العجز في الميزان التجاري بالارتفاع. تشير البيانات الأخيرة إلى أن العجز بلغ 773 مليار دولار في عام 2023، وأظهرت الاحصاءات الرسمية الصادرة عن مكتب الإحصاء الأميركي (US Census Bureau)، بأن العجز في ميزان التجارة تراوح بين 90 مليار دولار و 99 مليار دولار شهرياً خلال الفترة من يناير/كانون الثاني إلى مايو/أيار 2024. يأتي ذلك نتيجة حجم الاستيراد الكبير للولايات المتحدة والذي يتراوح بين 259 مليار دولار و 267 مليار دولار شهرياً، في حين تقدر الصادرات الأميركية بين 169 مليار دولار و 174 مليار دولار شهرياً خلال الفترة نفسها. علما أن الولايات المتحدة فقدت ميزاتها النسبية في العديد من الصناعات التحويلية، مثل الصناعات النسيجية والجلدية والالكترونيات والسيارات، منذ منتصف ستينات القرن الماضي لصالح اليابان ثم كوريا وبعد ذلك الصين. 

هذه عوامل مهمة أدت إلى ارتفاع قيمة الواردات وانخفاض قيمة الصادرات، أضف إلى ذلك أن شهية الاستهلاك في المجتمع الأميركي عالية بما يرفع الطلب على السلع والبضائع المستوردة من الخارج.

أفكار ترمب المخيفة

الآن، يفكر دونالد ترمب، الرئيس السابق والمرشح الجمهوري الحالي لرئاسة الولايات المتحدة، بإعادة النظر في سعر صرف الدولار وربما خفض قيمته أمام العملات الرئيسة الأخرى. لكن إذا كان الهدف رفع قيمة الصادرات ومعالجة العجز في ميزان التجارة وميزان المدفوعات، فالنتيجة لن تذكر.

توظف صناديق أبو ظبي 52% من أموالها في الولايات المتحدة، كما يوظف الصندوق السيادي الكويتي 33% من أمواله فيها

انخفض عجز ميزان الحساب الجاري للولايات المتحدة، الذي يعكس الميزان التجاري للسلع والخدمات وتدفقات الدخل لمواطني الولايات المتحدة ومواطني الدول الأخرى، بنحو 153 مليار دولار تقريباً (15,7في المئة) في عام 2023 ليبلغ 819 مليار دولار. يؤكد مكتب الاحصاء الأميركي أن هذا الانخفاض نتج من تراجع الواردات من السلع. يمثل هذا العجز 3 في المئة من قيمة الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة في العام نفسه، والذي بلغ 27 تريليون دولار.

لن تمر إعادة تسعير صرف الدولار بالخفض (Devaluation) مرور الكرام. هناك استثمارات مباشرة مسعرة بالدولار وظفها في الولايات المتحدة صناديق سيادية ومستثمرون أجانب ومؤسسات وأفراد. قدرت قيمة استثمارات الاجانب المباشرة في الولايات المتحدة بنحو 289 مليار دولار. هذا ناهيك عن الاستثمارات المسعرة، سندات وأسهما مدرجة في البورصات وغيرها من أدوات مالية قابلة للتداول. تملك الصين من خلال العديد من صناديقها السيادية أصولا كبيرة في الولايات المتحدة، منها جزء مهم في سندات وأذونات الخزينة الأميركية، تقدر قيمتها بـ 771 مليار دولار.

إيرادات النفط بالدولار

هناك كذلك الصناديق السيادية الخليجية التي وظفت أموالاً كبيرة في الولايات المتحدة. توظف صناديق أبو ظبي 52 في المئة من أموالها في الولايات المتحدة، كما أن الصندوق السيادي الكويتي يوظف 33 في المئة من أمواله في الولايات المتحدة. 

أ.ف.ب.
هل تبقى قيمة المئة دولار على حالها.

إذاً، هناك مصالح دولية لاستقرار سعر الدولار، ولا سيما لجهة الأصول السيادية والخاصة في الولايات المتحدة، حيث إن أي تعديل سلبي لسعر صرف الدولار ستنتج منه خسائر للمستثمرين إذا ما أعيد تقييم الأصول بالعملات الأخرى.

لدى دول الخليج قلق آخر، يتمثل بإيراداتها من النفط التي تحدد بالدولار، كيف يمكن الحفاظ على القيمة الحقيقية لهذه الإيرادات

لدى دول الخليج قلق آخر في شأن مسألة سعر صرف الدولار يتمثل في إيراداتها من النفط التي تحدد بالدولار. كيف يمكن الحفاظ على القيمة الحقيقية لهذه الإيرادات دون التأثير سلبا على برامجها الإنفاقية واستحقاقات والتزامات هذه الدول تجاه شعوبها. لن يكون من اليسير تحديد عملة أخرى أو أدوات دفع مختلفة لتعويض الدولار، كما أن التعامل مع الدول المستوردة بحسب عملاتها يمثل مخاطرة كبيرة لدول المنطقة. حيث إن تسديد التزامات التجارة الخارجية بعملات غير الدولار سيكون من العمليات المعقدة وربما غير المتاحة.

يتطلب الأمر من دول الخليج أن تطرح المسألة على صندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية العالمية لمواجهة احتمالات خفض سعر صرف الدولار.

ربما لن يكون ذلك ممكناً لإدارة ترمب، في حال فوزه في الانتخابات الرئاسية في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، إذ لا بد من أن يواجه معارضة واسعة من الأوساط الاقتصادية ومجلس الاحتياطي الفيديرالي. يضاف إلى ذلك أن الخفض سيضر بالتدفقات الاستثمارية إلى الولايات المتحدة. هناك إمكانات لاعتدال سعر الصرف دون قرارات اعتباطية منها ما يتعلق بخفض سعر الحسم وأسعار الفوائد المصرفية المتوقع خلال النصف الثاني من هذا العام حيث إن البيانات الاقتصادية التي صدرت اخيراً تؤكد أهمية قرار خفض سعر الحسم من أجل تنشيط الاقتصاد الأميركي.

font change

مقالات ذات صلة