نقرأ في كتاب "بارت بقلم بارت": "التنجيم لا يتنبأ، وإنما يصف، إنه يصف بكيفية واقعية أوضاعا اجتماعية".
لعل أهم كلمة في هذه العبارة التي قد تفاجئ قارئها، لصاحب "أسطوريات"، هي النعت "واقعية". يرمي بارت هنا أساسا إلى إعادة النظر في مفهوم "الواقع"، لينفض عنه حمولته الوضعية، وليجعله يتضمن مفهومات الإمكان والقوة والتطلع. فنحن هنا أمام واقع ينطوي على إمكاناته المستقبلية، واقع كثيف الطبقات، يضم قوته وطاقته، حاضره ومستقبله. الواقع هنا، كما كان بلانشو قد كتب، نص قابل لتأويلات لا حصر لها، وهو طرس جيولوجي متعدد الطبقات، إنه "محايثة" مطلقة، لا تعرف تعاليا.
يتعذر علينا أن نسلم بفحوى قولة بارت هذه إن نحن تمسكنا بالتقابلات والثنائيات التي اعتدنا التفكير حسبها كثنائية واقع/حلم، حقيقة/خيال، وهم/لا وهم... وإن نحن تشبثنا بتحديد التنجيم على أنه انتقال من إشارات يعطيها الواقع إلى القدرة على التنبؤ بممكناته والتكهن بمستقبله. فهذه القولة لا تتطلب منا إعادة النظر في طرف واحد بعينه من تلك الثنائيات، إنها لا تدعونا إلى مراجعة مفهومنا عن الواقعي أو الحقيقي أو الخيالي أو الوهمي، وإنما تقتضي إعادة النظر في تلك الثنائيات ذاتها، وكذا المنطق المتحكم فيها، والآلية التي تعمل حسبها. هذه القولة لن تعني وتدل إلا شريطة تفكيك هذه الثنائيات، وليس إعلاء أحد أطرافها ضد الآخر.
ذلك أن الأمر لا يتعلق هنا بقلب واقع مفترض وتلوينه و"الإعلاء منه" وحدس ممكناته، كما لا يتعلق بخلق أوهام أو نسج خيالات، وإنما بممارسة آلية غريبة تكاد تطبع عالمنا المعاصر، لا تخص التنجيم وحده، وإنما تمتد إلى الإعلام والإشهار واستطلاعات الرأي والموضة وترويج الشائعات... وهي الآلية التي تجعل الأشياء حقيقة بمجرد تأكيد أنها كذلك. إنها الآلية التي تجعل عالمنا عالم أوهامنا. فما أن يظهر استطلاع رأي، أو تنبؤ بما سيجري، أو إعلان حول منتوج، حتى تدخل هذه الفعاليات في تشكيل ما يسمى واقعا، بل في صنعه، كي تنتهي بأن تفرض "واقعيتها".
ما أن يظهر استطلاع رأي، أو تنبؤ بما سيجري، أو إعلان حول منتوج، حتى تدخل هذه الفعاليات في تشكيل ما يسمى واقعا بل في صنعه
لا يقتصر فحوى عبارة بارت، والحالة هذه، على تأكيد أن التنجيم هو في النهاية تعبير عن تطلعات ومطامح. فليس التنجيم بمقتضى هذه القولة مجرد مرآة تعكس الرغبات والميول فحسب، بل إنه مرآة فعالة إذ تعكس عن المجتمع صورا تدفعه إلى أن يستنسخها فيسعى إلى أن يتشبه بالصور التي تعكس عنه. كأن بارت يريد أن يقول: إن التنجيم يخلق الواقع الذي يتنبأ به فينبئ عنه. نحن هنا أمام آلية دائرية، سرعان ما يغدو فيها المعلول علة، والإمكان واقعا.
من المأثور عن بورخيس قوله: "لست أدري ما إذا كان الأمر قد حصل بالفعل، ما يهم اليوم هو أن هذه الحكاية قد رويت فأعتقد في صحتها". هنا يغدو الخطاب آلية لبناء "الواقع"، وحتى ما يروى على أنه مجرد "خيالات وأوهام"، سرعان ما يتلبس واقع الأمور، ويفعل فيها.
يدعونا جان بودريار، لكي نفهم كيف تعمل هذه الآليات في المجتمع المعاصر، أن نرفع عن تلك الفعاليات كل طابع "واقعي"، وننظر إلى الإعلان في ما وراء الصواب والخطأ، وإلى الموضة في ما وراء الجمال والقبح، وإلى استطلاع الآراء والتنجيم في ما وراء الصدق والكذب، وبصفة أعم، إلى الأشياء في وظيفتها كدلائل، في ما وراء النفع والضرر.
فليس الإعلان ولا استطلاع الرأي ولا الموضة ولا التنجيم إخبارا واستدلالا أو إقناعا وبرهانا. صحيح أن كل هاته الفعاليات هي أقرب إلى المرآة التي تعكس الأذواق والمطامح والرغبات والميول، لكنها مرايا فعالة، إذ تعكس عن المجتمع صورة تدفعه إلى أن يستنسخها فيحاول أن يتشبه بالصور التي تعكس عنه.فالإعلانات مثلا مرآة يرى فيها المجتمع ذاته وما يرغب فيه فيحاول أن يتطابق مع الصورة التي تعكسها له، والدور نفسه يقوم به استطلاع الرأي. إنه يتنبأ بالأحداث الاجتماعية والسياسية فيحل محلها وينتهي بأن يعكسها.
ليس المنطق المتحكم هنا كما قلنا هو منطق البرهان والاستدلال، لكنه ليس كذلك "المنطق" الأيديولوجي. بهذا المعنى فإن الإعلانات واستطلاعات الرأي ليست مجرد صباغة وطلاء خارجي، لا واقعية له ولا فعالية، وإنما هي جزء من مخاض فعلي. فالأمر لا يتعلق بقلب واقع مفترض أو تشويه أفكار أو خلق أوهام، وإنما بممارسة فن جديد، وصناعة مستحدثة تخص المجتمعات المعاصرة وتميزها. هذا الفن هو فن جعل الأشياء حقيقة بمجرد تأكيد أنها كذلك، إنه الفن الذي يجعل الإخبار متقدما على ما يخبر عنه، ويجعل "الواقع" مفعول الخبر ونتيجته. ها هنا لا تنفعنا في ضبط الآلية المتحكمة مفاهيم الموضوعية والذاتية، ولا الصواب والخطأ، ولا حتى الوهم واللاوهم. فنحن لسنا هنا أمام موضوعات ولا أشياء، وإنما أمام دلائل وعلامات يتحكم فيها منطق السيميولوجيا، لا منطق الإبيستمولوجيا، ولا حتى منطق الأيديولوجيا.
توضيحا لهذه الآلية يستعير بودريار حكاية لبورخيس يصف فيها هذه المحاكاة الساخرة لـ"التشبه بالواقع"، حيث يقوم "خرائطيو إمبراطورية بوضع خريطة مفصلة تغطي مجموع مجالها الترابي بدقة كبيرة. ومع أفول الإمبراطورية بدأت خريطتها تتفتت شيئا فشيئا... لقد حذت الخريطة حذو الأرض كما لو تعلق الأمر بلحم فاسد محكوم عليه بالتفتت وبالعودة إلى مادته الأصلية (الأرض)".
لم تعد الخريطة محاكاة لأرض، وإنما تحولت إلى استراتيجيا للتوليد، "أصبحت الخريطة هي التي تسبق الأرض وترسمها وتولدها"، لقد غدت، بفعل تشبهها بالواقع، واقعا يفوق الواقع واقعية، وتمكن التشبه من أن يجعل الأرض والخريطة "يتشابهان علينا"، بحيث يختفي الاختلاف الذي يسمح بالتمييز بين الثنائيات الميتافيزيقية، ويبرر وجود التجريد والخريطة والأرض والواقع والوهم.
علاقة جديدة تخلقها هذه الآلية بين الحلم والواقع، ولا سبيل إلى فهمها إن نحن تشبثنا بالمفهوم التقليدي عن الواقع
ذلك أن استراتيجيا "التشبه" هي التي تجعل الواقع والوهم يتشابهان علينا، هي التي تلغي الاختلاف. فهي ليست افتراء على الواقع من شأنه أن يفتضح وقت ظهور الحقيقة، وإنما هي تشبه به يجعل الواقع يكف عن أن يكون واقعا ليفوق نفسه ويغدو واقعا فائقا سورياليا "من إنتاج نماذج مموهة داخل فضاء فائق لا مرجعية ولا محيط خارجي له".
علاقة جديدة إذن تخلقها هذه الآلية بين الحلم والواقع، بين الشائعة والخبر، بين التنبؤ والوصف. ولا سبيل إلى فهمها إن نحن تشبثنا بالمفهوم التقليدي عن الواقع، كما لا سبيل إلى إدراكها في إطار التحديد العلي التقليدي الذي يربط المسببات بالأسباب. ذلك أننا هنا، كما سبق أن قلنا، أمام لعبة دائرية انعكاسية يغدو فيها المعلول علة. وقد قلنا إنها الآلية ذاتها التي تتحكم في الإعلان والشائعة واستطلاعات الآراء، كل هذه الفعاليات تتطلع إلى ما تستطلعه، وتنبئ عما تتنبأ به، فتنتهي بأن تصف الواقع الذي تريد أن تتكهن بتحولاته.