يدخل "أجساد بطولية" مباشرة في الموضوع، وتستهل هادية حسب الله، الناشطة النسوية الشابة، الكلام عن رموز تاريخية من الحركة النسوية السودانية، كالسيدة عزة التي يُنسب إليها السودان كله، وكانت حسب الفيلم، أول امرأة تتعرض للتعذيب السياسي على يد المستعمر الإنكليزي، لمشاركتها في أعمال المقاومة. بدءا من هذه اللحظة التعريفية، بهذا الوجه الأنثوي من السودان، نتبيّن مزاج الفيلم الذي يبحث عن النقطة المضيئة وسط كل عتمة. وترافق الأحداث التي ترويها الناشطات، موسيقى أغنية الفيلم "سلام" التي تُغنيها نانسي عجاج، بمعنى سلام على أولئك النسوة المقاومات في الماضي والحاضر، وألحان الأغنية من المقام الكبير، الذي يبعث على الابتهاج والأمل رغم الألم.
بصريا يعوّض الفيلم السكون الحركي للكاميرا أمام الشاهدات وحكاياتهن بأرشيف ضخم من الصور والمقاطع المصوّرة التي عثرت عليها المخرجة سارة سليمان في المؤسسات السودانية النسوية والجامعات في لندن. يستعرض المونتاج هذا الأرشيف، الذي نرى في غالبية الأحيان آثار الزمن عليه، جنبا إلى جنب أصوات الراويات وقصصهن وجلساتهن المستريحة في بيوتهن. والبيت هو مكان المرأة الأول وفقا للمفهوم الشعبي، وبين جدرانه عادة ما تُنسج الحكايات الخيالية، التي تؤسّس المرأة عبرها سلطتها البديلة للسلطة الذكورية الخارجية. لكنه يحمل هنا قوة مزدوجة، إذ تُنسج في زمن الفيلم، وبين جدرانه، حكايات حقيقية عن بطلات واقعيات ضد الهيمنة الذكورية. حكايات يمكن رؤيتها وصفات تمرد ضد البالي من الأفكار التي انهوست بالجسد الأنثوي، سلبيا، وكبلته هو وصاحبته بالشرور والسلاسل.
أذى متوارث
يوثّق الفيلم – ضمن ما يوثّق – عددا من العادات المتوارثة التي امتهنت الجسد الأنثوي وعرضته على الملأ باعتباره سلعة يباهي بها. كعادات الزواج مثلا، في ثلاث ليال ترقص خلالها المرأة لزوجها وعائلته والضيوف، بينما يمسكها زوج بحبل حتى تسقط مغشيا عليها. وكذلك يعرض لـ"الرحط"، وهو زي كان يُظهِر بطريقة معينة مفاتن المرأة، التي تضطر إلى كشفها باستمرار حتى يأتي من يطلب يدها، كما تروي الناشطة النسوية فاطمة القدال. توقفت مراسم الزواج القاتلة للنساء بهذا الشكل في الستينات، وهوجم أوائل الذين تخلوا عنها، وتبنوا مراسم الزفاف المعهودة حاليا، واتُهموا بأنهم يقلّدون المصريين، في إشارة إلى التخلي عن الأصل.
وتتوصل البروفسورة فاطمة بابكر محمود، مؤسسة منظمة تحرير المرأة الأفريقية، إلى خلاصة "أن المرأة السودانية لا تملك جسدها"، وإلى أن المجتمع، الذي تعرّض إلى تاريخ طويل من الاستعمار، كان يُحوِّل هذا القهر تلقائيا على أجساد النساء، ويقنعهن في الآن نفسه، بأن هذه العادات كانت لمصلحتهن.
ومثل أيضا طريقة الولادة بالحبل، وكانت شائعة قبل ظهور مدرسة "الدايات" أو القابلات، وفيها كانت تتعلق المرأة بحبل يتدلى من السقف، بينما ينجذب الوليد الى أسفل، وقد يخرج بأجزاء من الرحم الداخلي للأم.
ويرتبط شيوع مثل هذه العادات وقبولها من جهة المرأة، برفض المجتمع عموما تعليم النساء، هذا الرفض الذي اخترقه الشيخ بابكر بدري، حين سعى إلى تأسيس نظام تعليمي كامل للبنات. التعليم الذي يُفرز لاحقا رائدات أخريات من النسويات السودانيات، وبدورهن سيناهضن الاستبداد على يد الحكام العسكريين للسودان.
الزار مسرحا للتمرّد
ومع ذلك، فإن قلة من الرجال ساندت حقا المرأة السودانية في مسائل التعليم والنضال لاستعادة الحقوق والعمل، غير الشيخ بدري. ويفسر الطبيب النفسي د. عبد الله عابدين، هذا النكوص من جانب الرجال، بأنهم رأوا أن تعليم النساء سيؤدّي إلى منافستهم في سوق العمل. من جانب ثان، شجع التعليم والثقافة وإصدار الصحف النسوية كمجلة "صوت المرأة"، التي أصدرها الاتحاد النسائي السوداني، شجّع التراجع عن قبول العادات المسيئة للمرأة جنسيا، كعادات الختان والعدل، وكان الرجل المستفيد الوحيد منها.
ويتحدث د. عبد الله عابدين عن الزار، بوصفه مساحة كانت تؤدّي فيها المرأة (المسكونة بالأرواح) فقرات من الرقص الحر والغناء، وكانت تلبى فيها طلباتها، مهما كانت غريبة أو معادية لعادات المجتمع، كرغبتها في التدخين أو في الخمر، باعتبارها طلبات الجن الذي يسكنها. وكأن المرأة حين تقول إنها مسكونة تطالب بحرية زائلة. ويربط عابدين بين شيوع الزار وقوته، وبين الوضع المتردّي للمرأة اجتماعيا، باعتباره وسيلة للتمرد الناعم والتنفيس. من ناحية أخرى، اجتذب الزار كساحة فنية آخرين من المهمشين والمنبوذين اجتماعيا.
وسط هذا الزخم من التحليلات والقصص، كان يمكن للمُشاهِد أن يضيع لولا مونتاج الفيلم لعماد ماهر، ورؤية المخرجة التي تجسّدت من بين عناصر عديدة، بالمشاهد الممثَّلة للشابة السودانية الساكنة وراء القضبان، وهي مشاهد تتخلل الفيلم وحكيه، وينتهي بتحرر موازٍ لهذه السيدة. أحيانا أخرى، كان يعوض غياب المادة التسجيلية، برسومات ولوحات لفنانيين سودانيين تترجم التاريخ إلى صور تعبيرية.
وتروي فاطمة بابكر محمود، حكاية ختانها الشخصية والأليمة، وتراها علامات للقهر المبكر التي يتركها المجتمع على أجساد نسائه، وتربطها شهادات أخرى بعادة "الشلوخ"، وهي جراح طولية كانوا يشقون بها وجوه النساء، وهم يقنعون الفتيات الصغيرات أنها علامات على الجمال، إلى أن تختبر الطفلة صدمتها (مثلما اختبرت من قبل صدمة الختان)، وتعيش ألم هذه الجراح التي تظل مفتوحة وملوَّثة لزمن طويل، كي تتخذ في النهاية هذا الشكل الذي يرونه جميلا في دلالته على القبيلة، ويمكن أن نراه على غلاف رواية "الغرق" للكاتب السوداني حمور زيادة.