باريس "تغازل" الرباط في الصحراء... السياسة في خدمة الاقتصاد

الشركات الفرنسية تتطلع الى "كعكة" المشاريع المغربية التنموية وكأس العالم

Shutterstock
Shutterstock

باريس "تغازل" الرباط في الصحراء... السياسة في خدمة الاقتصاد

انتقلت العلاقات بين فرنسا والمغرب خلال الأيام الأخيرة من الجمود إلى الدفء، ومن العتاب إلى المصالحة، بعد فترة تأزم اتسمت بالنفور والتباعد، وامتدت لشهور طويلة، خسرت فيها باريس مواقعها الأولى الاقتصادية والتجارية والاستثمارية والثقافية في المغرب ومجموع المنطقة لحساب منافسين جدد في مقدمهم الصين المستفيدة الأولى من القرب الجغرافي، واتفاقية الشراكة المتقدمة بين المغرب والاتحاد الأوروبي، والمنطقة التجارية الحرة مع الولايات المتحدة.

اختار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذكرى الخامسة والعشرين لعيد العرش (30 يوليو/ تموز) ليوجه إلى الملك محمد السادس رسالة تهنئة، تتضمن رغبة قوية بتحقيق "تعاون عميق متعدد المجالات"، واعترافا صريحا "بسيادة المملكة على الصحراء". وقال "إن حاضر ومستقبل الصحراء يقعان ضمن السيادة المغربية، لذلك، أؤكد لجلالتكم ثبات الموقف الفرنسي في شأن هذه القضية الحساسة للأمن القومي لمملكتكم، وتعتزم فرنسا التصرف بما يتماشى مع هذا الموقف على الصعيدين الوطني والدولي. المغرب شريك أساسي لفرنسا وللاتحاد الأوروبي، وقطب استقرار يلعب دورا متزايدا في سياق دولي مضطرب ". وخلال حفل إقامته السفارة المغربية في باريس للمناسبة، قال وزير الخارجية ستيفان سيجورنيه "سنكون إلى جانب المغرب لدعم مشاريعه الأكثر طموحا. لقد وقفنا دائما إلى جانب المملكة".

تطور الموقف الفرنسي من قضية الصحراء يفتح الباب أمام فرص استفادة الشركات الفرنسية من المشاريع المغربية، إذ إن الاستثمارات التنموية في الصحراء، ومشاريع كأس العالم تغري مئات الشركات الفرنسية

تطور الموقف الفرنسي من قضية الصحراء يفتح الباب من جديد أمام فرص استفادة الشركات الفرنسية من المشاريع المغربية، إذ إن الاستثمارات التنموية في الصحراء، ومشاريع كأس العالم تغري مئات الشركات الفرنسية، التي تواجه أوضاعا اقتصادية صعبة، بسبب ما يمر منه الاقتصاد الفرنسي من أزمات وتحديات غير مسبوقة، في وقت فقدت باريس امتيازاتها الاقتصادية في عدد من مناطق العالم خاصة في إفريقيا.

إ.ب.أ.
وزير الاقتصاد والمالية الفرنسي برونو لومير يلقي كلمته خلال منتدى الأعمال الفرنسي - المغربي في الرباط، 26 أبريل 2024.

وتتطلع تلك الشركات وبعضها متواجد منذ عقود، إلى المساهمة في مشاريع البني التحتية الكبرى، مثل ميناء الداخلة الأطلسي الذي سيكون جاهزا عام 2027، للعب دور إقليمي يربط دول الساحل الإفريقي بالمحيط الأطلسي. وأيضا المساهمة في مد شبكة للتيار الكهربائي ذات الجهد العالي من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، بالاعتماد على مصادر طاقة غير تقليدية شمسية وريحية. وأيضا بناء15 محطة تحلية مياه البحر، وإنشاء وحدات لإنتاج الهيدروجين الأخضر في جنوب البلاد، حيث حرارة الشمس ومياه البحر تقلص كلفة الإنتاج.

45 مليار دولار على طاولة الاستثمار

لا تخفي فرنسا سعيها لتكون حاضرة في مشاريع إفريقيا الأطلسية التي تضم كثيرا من مستعمراتها السابقة في غرب القارة، وهو تجمع إقليمي وقاري من شانه خلق نهضة اقتصادية وتكامل تنموي بين الدول المطلة على جنوب المحيط الأطلسي، بسوق استهلاكية تتجاوز 600 مليون نسمة، أي ما يعادل ساكنة تجمع دول آسيان في جنوب شرق أسيا.

تتطلع باريس الغارقة في الديون والمتاعب السياسية والاقتصادية، الى حزمة المشاريع المغربية المخطط لها قبل عام 2030، وهي تتجاوز 45 مليار دولار

في هذه المرحلة ستعتمد على المغرب لتحقيق عودة اقتصادية وثقافية، عبر مشاريع استثمارية وتمويلات مشتركة ثنائية أو متعددة. وتضع باريس الغارقة في الديون والمتاعب السياسية والاقتصادية أمام أعينها، حزمة المشاريع المخطط لها قبل عام 2030، وهي تتجاوز 45 مليار دولار، شرع المغرب في تنفيذها في عدد من المجالات والقطاعات استعدادا لكأس العالم، منها التزود 168 قطارا فائق السرعة، ومد خطوط سكة جديدة إلى مراكش، واقتناء 200 طائرة حديثة، وتشييد ملاعب عالمية، وإقامة فنادق ومتاجر ومحلات ترفيه لاستقبال نحو 30 مليون زائر.

ملف الصحراء... بوابة الاقتصاد

 تأخرت فرنسا سنتين لفهم رسالة مغربية رسمية، مفادها "أن ملف الصحراء هو النظّارة التي ينظر من خلالها المغرب إلى العالم، هو المعيار الذي يقيس به صدق الصداقات ونجاعة الشراكات". ورد ذلك في خطاب ملكي عام 2022. اليوم، ارتفع سقف التنافس بدخول شركاء جدد، بعضهم يتفوق على الشركات الفرنسية في الجودة والخدمة والتكلفة. لقد فقدت باريس خلال فترة الأزمة الديبلوماسية مع الرباط كثيرا من امتيازاتها السابقة، وهي اليوم تفاجئ بتراجع موقعها وريادتها التجارية لصالح إسبانيا، التي زادت مبادلاتها مع المغرب إلى 22 مليار يورو مقابل 14 مليارا فقط لفرنسا عام 2023. 

صارت ألمانيا أول مستثمر في الطاقات المتجددة والهيدروجين الأخضر، واستغلاله ابتداء من 2026. وغدت الرباط الشريك التجاري الثالث لبريطانيا من خارج الاتحاد الأوروبي، خصوصا في القطاع الزراعي. وقال وزير الدولة البريطاني لشؤون الدفاع  فيرنون كوكر "إن الحكومة البريطانية تحدوها الرغبة في مواصلة تعزيز علاقات التعاون مع المغرب، الذي بإمكانه الاعتماد على المملكة المتحدة كشريك متحمس وموثوق به". وتعترف لندن تجاريا بإقليم الصحراء جزءا من المملكة المغربية باتفاق يعود إلى 2019.

فرنسا لها تاريخ متميز في المنطقة المغاربية، قد تستفيد من المغرب لمواجهة تحديات مالية، لكن مشاكلها الاقتصادية أكبر من أن تجد حلها عند الأصدقاء القدامى

 وقال رئيس فريق الحركة الشعبية في البرلمان إدريس السنتيسي لـ"المجلة" إن "تعدد الصداقات والشراكات أصبح مسألة ضرورية في عالم متعدد الأقطاب، ومتداخل المصالح، والتحولات السريعة، وعدم اليقين"، في إشارة ضمنية إلى أن كل أعضاء مجلس الأمن الدولي أصدقاء وشركاء مع المغرب، بمستويات ومجالات مختلفة. فرنسا لها تاريخ متميز في المنطقة المغاربية، قد تستفيد من المغرب لتليين بعض الصعوبات، أو تجاوز بعض التحديات المالية. لكن مشاكلها أكبر أن تجد حلها عند الأصدقاء القدامى. فمن جهة، البلد منقسم على نفسه سياسيا وثقافيا، ومن جهة أخرى يصعب حل مشاكل فرنسا الاقتصادية والاجتماعية على المدى المتوسط. فالبلد يحتاج إلى مجهود مالي كبير، واستقرار اجتماعي مستدام، وهدنة إقليمية دون صراعات أو حروب. وهذا غير متوفر في الظرف الراهن. 

وتبدي المؤسسات المالية الدولية قلقها في شأن وضع الاقتصاد، بعدما تجاوزت المديونية الفرنسية سقف 3156 مليار يورو. وحذرت وكالتا "ستندارد أند بورز" و"موديز"من خفض الائتمان السيادي، إلى درجة ناقص من مستقر، إذا لم يعلن قريبا توافق سياسي وخطة إصلاح مالية. وسيكون مشروع موازنة 2025، أحد الاختبارات الصعبة لخفض العجز الكبير في الموازنة، والامتثال لقواعد الاتحاد الأوروبي التي تضع سقف 2027 للعودة إلى قاعدة عجز لا يتجاوز 3 في المئة، المعمول بها مع صندوق النقد الدولي.

 ضغوط رجال الأعمال

وكشفت صحف فرنسية في الأسبوع الأول من أغسطس/آب مثل "لوموند" و"فيغارو" و"ليبيراسيون" عن ضغوط مارستها مجموعات اقتصادية ومالية واستثمارية وبعض رجال الأعمال الكبار على الرئيس ماكرون، من أجل تسريع المصالحة مع المغرب، "خوفا من ضياع مصالح إستراتيجية في بلد محوري في البحر الأبيض المتوسط"، و"الاستفادة من مشاريع إقليمية ضخمة في مجال التنمية الاقتصادية". وكان وزراء فرنسيون زاروا المغرب في الأشهر الأخيرة، منهم وزراء المالية والاقتصاد، والخارجية، والداخلية، والتجارة، والثقافة، تحدثوا عن "مغرب جديد سريع التطور، مزدهر ومستقر مقارنة بجيرانه".

font change

مقالات ذات صلة