الألعاب الأولمبية... روسيا لم تعد تريد أن تلعب مع الغرب

بوتين تغير تماماً في 2024 بعد ترحيبه بالعالم في "سوتشي" الذي لم تهضم استثماراته بعد

دايف موراي
دايف موراي

الألعاب الأولمبية... روسيا لم تعد تريد أن تلعب مع الغرب

قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وهو يتأمّل في شعار "الوحدة في التنوع" خلال كلمته في حفل العشاء الافتتاحي لدورة الألعاب الأولمبية الشتوية في سوتشي 2014: "هذا الشعار قريب من قلب كل روسي لأن مصائر كثير من الشعوب متشابكة في بلدنا، والقيم الأولمبية كالاحترام المتبادل، والإنصاف، والسلام الدائم، هي أساس ثقافتنا الوطنية وشخصيتنا الوطنية". لكن حماسة بوتين للترحيب ببقية العالم وإبهارهم بإنجازات روسيا تراجعت بعد أسبوعين فحسب، عندما أطاحت الاحتجاجات في كييف بالرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش، وتلا ذلك بعد وقت قصير استيلاء روسيا على شبه جزيرة القرم وضمها.

بعد عشر سنوات، اشتدت عزلة روسيا عن بقية العالم. وتمثل دورة الألعاب الأولمبية لعام 2024 في باريس مناسبة أخرى يتعين فيها على الرياضيين الروس التنافس تحت علم محايد، ويبلغ عددهم 15رياضيا فقط. فما حال "الحلم الأولمبي" في روسيا وكيف أثر على اقتصاد البلاد ومكانتها العالمية؟

التفوق في الإنفاق على المنافسين

راهنت روسيا بمبالغ طائلة على الألعاب الأولمبية الشتوية في سوتشي. فقد أنفقت عليها 59.7 مليار دولار أميركي، مما جعلها الألعاب الأولمبية الأكثر تكلفة على الإطلاق. في المقابل، فإن الموازنة التقديرية الحالية لدورة الألعاب الأولمبية 2024 في باريس تقل قليلا عن 9 مليارات دولار أميركي.

حققت الألعاب الأولمبية الشتوية لعام 2014 مرادها على صعيد العلاقات العامة، لكن ذلك دام أسبوعين فحسب. فما العائد الاقتصادي الذي جلبته مليارات الدولارات التي أنفقت في سوتشي وبقية البلاد

في بداية الأمر، بدا أن الاستثمار يحقق العوائد المرجوة. فعرض التلفزيون الحكومي الروسي ردود فعل الأجانب مثل الصحافي السويدي أولا وينستروم الذي قال: "أعجبت كثيرا بحفل الافتتاح. وتعلمت الكثير مما لم أكن أعرفه عن روسيا، وكان ذلك مثيرا جدا للاهتمام". وفي التقرير نفسه، تحدث لستر هولت من شبكة "إن بي سي نيوز" الأميركية أنه تعلم الكثير عن تاريخ روسيا المجيد، وذكر بطرس الأكبر خصوصا. ويعرف كل من يتابع نهج فلاديمير بوتين في التواصل، مثل مقابلته في فبراير/شباط 2024 مع تكر كارلسون، أن بطرس الأكبر نقطة حوار رئيسة.

لذا حققت الألعاب الأولمبية الشتوية لعام 2014 المراد على صعيد العلاقات العامة، لكن ذلك استمر أسبوعين فحسب. فما الذي جلبته مليارات الدولارات التي أنفقت إلى سوتشي وبقية البلاد لجهة العائد الاقتصادي؟

.أ.ف.ب
فرسان يحملون راية العلم الأولمبي خلال حفل افتتاح الألعاب الأولمبية في باريس، 26 يوليو 2024.

من المنصف القول إن التقدير الأولي للموازنة كان أكثر تواضعاً، إذ قدر بنحو 12 مليار دولار أميركي. لكن زعيم المعارضة الروسية بوريس نيمتسوف، والصحافي والناشط المعارض ليونيد مارتينيوك ادعيا في وقت مبكر أن "المشروع الشخصي" لبوتين سيرتب تكلفة أكبر على البلاد وشعبها.

أرقام ألعاب سوتشي 2014

حسب نيمتسوف ومارتينيك أن تكلفة تشييد الملعب الأولمبي الرئيس في سوتشي بلغت في النهاية 230 مليون دولار أميركي، وهو يتسع لـ 40,000 شخص فحسب، مما يعني أن التكلفة مقابل كل مشجع كانت مذهلة وبلغت 19,500 دولار (مقارنة بـ 6,000 دولار في المتوسط في الألعاب الأولمبية الأخرى). وزعما أن العديد من هذه المنشآت ستبقى فارغة بعد انتهاء الألعاب الأولمبية، وكتبا في مقالهما، "سوتشي الكبرى مدينة يصل عدد سكانها إلى نصف مليون نسمة. ويبلغ عدد المقاعد في المباني الأولمبية نحو 200,000 مقعد. لذا من الواضح أن الملاعب ستبقى فارغة، باستثناء أيام الألعاب الأولمبية. الملعب الكبير الوحيد لكرة القدم الذي كان قائما من قبل في سوتشي، أي زيمتشوزينا، امتلأ تماما بسعة 10,000 مشجع مرة واحدة فقط، خلال افتتاحه". وبعد عام واحد فحسب، اغتيل نيمتسوف على جسر بولشوي موسكفوريتسكي في موسكو.

وربما كانت تلك الحسابات الدقيقة هي التي سمحت للمتحدث باسم اللجنة الأولمبية الدولية مارك آدامز القول أن الألعاب الأولمبية الشتوية في سوتشي حققت "ربحا تشغيليا" قدره 53 مليون دولار أميركي فقط

لا تحب الحكومة الروسية أن يرتبط رقم كبير بتكاليف ألعاب سوتشي 2014. وقال المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف في سنة 2014 إن خلط "صافي تكاليف" الألعاب الأولمبية الشتوية في سوتشي 2014 بتلك التي أنفقت على البنية التحتية ليس صحيحا. وربما كانت تلك الحسابات الدقيقة هي التي سمحت للمتحدث باسم اللجنة الأولمبية الدولية مارك آدامز بالإعلان في فبراير/شباط 2015 أن الألعاب الأولمبية الشتوية في سوتشي حققت "ربحا تشغيليا" قدره 53.15 مليون دولار أميركي.

45 مليار دولار

وعندما أوردت إذاعة "بي بي سي" هذا الإعلان، ذكرت أن آدامز استخدم رقم 41 مليار دولار أميركي بوصفه التكلفة الإجمالية للألعاب، مع أن الحساب الرسمي الروسي قدر في ذلك الوقت بأكثر من 45 مليار دولار أميركي.

.أ.ف.ب
سباق الزلاجات الثنائية، خلال دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في سوتشي في روسيا، 16 فبراير 2014.

هناك أيضا رسائل متضاربة تتعلق بتكاليف صيانة البنى التحتية التي أنشئت من أجل ألعاب سوتشي. ففي تحقيق نشر في وقت سابق من السنة الجارية، ذكر موقع "سبورتس آر يو" (Sports.ru) أن ألكسندر تكاتشيف حاكم كراسنودار كراي، ادعى أن تكلفة صيانة تلك البنية التحتية في السنوات الثلاث الأولى بلغت 7 مليارات روبل (نحو 182 مليون دولار أميركي بسعر الصرف المتوسط لعام 2014). وحدد نائبه ألكسندر ساورين هذا الرقم بـ 10مليارات روبل (نحو 260 مليون دولار أميركي) في سنة واحدة فقط.

على نفقة دافعي الضرائب

وذكر نيمتسوف ومارتينيك في تقريرهما الكاشف أن الثريين الأوليغارشيين أوليغ دريباسكا وفلاديمير بوتانين استثمرا في البنية التحتية التي تخدم الألعاب. لكنهما طلبا بعد ذلك قروضا مضمونة 100 في المئة من الحكومة إذ كانا يعرفان أنهما سيخسران.

منتجع التزلج الخاص "روزا خوتور"، الذي يمتلكه الملياردير فلاديمير بوتانين، لا يحقق أرباحا على الرغم من الموسم النشط وارتفاع أسعار تذاكر التزلج

موقع "سبورتس آر يو"

وكتب نيمتسوف ومارتينيك في مقالهما، "وهكذا، إذا أجريت الحسابات اللازمة، تبين أن المبلغ الإجمالي للاستثمارات الرأسمالية الحكومية في برنامج الإعداد للألعاب بلغ 96 في المئة. الألعاب الأولمبية تبنى على نفقة دافعي الضرائب". وأكد التحقيق الوارد في موقع "سبورتس آر يو" ذلك. "إن منتجع التزلج الخاص "روزا خوتور"، الذي يمتلكه الملياردير فلاديمير بوتانين، لا يحقق أرباحا على الرغم من الموسم النشط وارتفاع أسعار تذاكر التزلج".

إقرأ أيضا: الألعاب الأولمبية من التاريخ إلى الصيرورة

كان استاد "فيشت" في سوتشي محور الألعاب، وأصبح الآن مقرا لنادي سوتشي لكرة القدم. ومع أن الملعب يظل ملكا للدولة، ويدفع النادي إيجارا مقابل استخدامه، فقد كشفت مقابلة أجرتها "تاس" في سنة 2022 أن دافعي الضرائب هم من يحافظون على استمرار الملعب.

.أ.ف.ب
ملعب فيتشت الأولمبي في سوتشي، خلال بطولة كأس العالم لكرة القدم 2018 في روسيا.

وفي تلك المقابلة قال نائب وزير الرياضة في إقليم كراسنودار كراي، سيرغي مياسيشيف: "إن صيانة الاستاد تكلف موازنتنا الإقليمية في المجمل نحو 800 مليون روبل في السنة"، وهو مبلغ يعادل 11.4 مليون دولار أميركي بسعر الصرف في سنة 2022.

روسيا ترفض الألعاب الأولمبية

تغيّر موقف بوتين تماماً من الألعاب الأولمبية 2024 في باريس بعد مرور عشر سنوات فحسب على ترحيبه بالعالم والألعاب الأولمبية في سوتشي. فبعد منع روسيا من إرسال وفد تحت العلم الروسي، أتاح الموقف الرسمي للكرملين لكل رياضي أو اتحاد اتخاذ القرار في شأن التوجه إلى باريس والمشاركة في الألعاب. لكن الرسائل كانت واضحة بأن روسيا لا تعد هذه الألعاب الأولمبية جديرة بالاهتمام. ورفضت كل القنوات الروسية بث ألعاب باريس 2024، مما سمح للمشاهدين المحتملين في روسيا باتخاذ ما يرونه مناسبا. عندما انزلقت شبكة السكك الحديد الفائقة السرعة في فرنسا إلى حالة من الفوضى في يوم حفل الافتتاح، وهو ما وصف بأنه "هجوم هائل"، قالت وزيرة الرياضة الفرنسية أميلي أوديا كاستيرا إن ذلك "ربما كان منسقا". وعندما سئلت إذا كانت روسيا وراءه، أجابت "ربما"، مما استدعى نفيا سريعا من الكرملين.

في إشارة واضحة من روسيا إلى أنها تنأى بنفسها أكثر، أطلقت فعاليات رياضية دولية جديدة مثل "ألعاب بريكس الأولى"، التي أقيمت في يونيو الماضي، وكذلك "ألعاب الصداقة"

أتيحت الفرصة لدميتري بيسكوف، المتحدث باسم فلاديمير بوتين، لتوجيه هجوم لفظي في وقت لاحق عندما علق على بعض مشاهد حفل الافتتاح. فردا على قسم من الحفل شبهه بعض الأشخاص بـ"العشاء الأخير"، قال بيسكوف إن ذلك كان "مثيرا جدا للاشمئزاز". ولم يفوت الفرصة لانتقاد اللجنة الأولمبية الدولية أيضا، إذ قال: "بناء على تجربتنا في الألعاب الأولمبية لعام 2014، نعلم أنه يجب الاتفاق على السيناريو بأكمله مسبقا مع اللجنة الأولمبية الدولية. إننا نعرف خصوصيات الجمهورية الفرنسية منذ مدة. ولكن أن توافق اللجنة الأولمبية الدولية على ذلك ليعرض على جمهور عالمي كبير... من الصعب تصديق ذلك، ولكن هذا هو الواقع للأسف".

.أ.ف.ب
زحمة في محطة قطار مونبارناس في باريس بعد تعرض المحطات في فرنسا لهجمات سيبرانية، 26 يوليو 2024.

وفي إشارة واضحة إلى أن روسيا تنأى بنفسها أكثر، فإنها أطلقت فعاليات رياضية دولية جديدة مثل "ألعاب بريكس الأولى"، التي أقيمت في جنوب البلاد في يونيو/حزيران 2024، و"ألعاب الصداقة". وكان من المقرر أن تعقد الألعاب الأخيرة في سبتمبر/أيلول 2024 لكنها أرجئت الآن إلى سنة 2025، في حين أن نحو 3,000 رياضي من 60 دولة وكيان إقليمي شاركوا في الألعاب الأولى، مقارنة بأكثر من 10,000 شخص يتنافسون في باريس.

كان استثمار روسيا في "ألعاب بريكس" أكثر تواضعا، إذ بلغ نحو 6 مليارات روبل أو 70 مليون دولار أميركي فقط. ربما يرجع ذلك إلى أن الاستثمار الضخم في سوتشي 2014 لم يهضم تماما بعد، أو لأن من الواضح أن عائد العلاقات العامة لن يكون كبيرا في هذه المناسبة. وأيا يكن الأمر، من الواضح أن روسيا لم تعد تريد اللعب مع الغرب.

font change

مقالات ذات صلة