الصمت والكتابة

الصمت والكتابة

معظم الكتاب في حاجة إلى صمت مطبق كي يشرعوا في الكتابة، صمت منذور لعزلة أو وحدة تنشدها أقلية حد الاستثناء في شواهق الجبال، في أعتى الغابات، في بياض الثلج المتفاقم (حالة فريديريك نيتشه ومارتن هايدغر على سبيل المثل)، أو صمت منذور لعزلة/ وحدة لدى الكثير منهم في البيت بدل الخارج، في البلد الأصلي لا المنفى أو في أي مكان شرط أن يتحقق فيه الصمت الدامغ.

بخلاف ذلك، هناك كتاب آخرون يؤثرون حضور موسيقى مصاحبة لإيقاع كتابتهم، وحضور الموسيقى المرافقة لفعل الكتابة عند هؤلاء، مسألة تحريضية صرفة، ما يشبه تحفيزا استباقيا أو موازيا للاستغراق في الخلق الفني، إن لم تكن مخدرا بدونه لا يندلق نهر الكتابة، هذا من جهة أولى. من جهة ثانية قد لا يعدو وجود موسيقى مرافقة في لحظة الكتابة أن يكون استئناسا، بدل أن يكون ملهما بالضرورة.

في المقابل هناك كتاب لا يشترطون لا الصمت ولا الموسيقى فيما هم يكتبون، سيان لديهم أكانوا في أمكنة ذات سكينة خالصة، أو على النقيض أمكنة صاخبة كالمقاهي والحانات، أو كانوا في غيرها من الفضاءات، داخلية أو خارجية، إذ نشاز الأصوات من حولهم لا يشكل عثرة أمام ألق إنجازهم.

 فلسفة الصمت بالنسبة الى كتابة كهذه هي التناغم الهارموني بين حقيقة الكتابة وطقوسية العدم الخلاق

أولا، من لا كتابة لهم إن لم تكن مشروطة بالصمت، يعادلون بين حتمية هذا الأخير وتحقق فعل الخلق الأدبي. الصمت لا يكتفي بأن يكون ضرورة لحدوث منجز الإبداع، إنما قد يتعدى ذلك، إذ يغدو هو نفسه الدرجة الصفر التي ينزع إلى أن يكونها النص المكتوب، شعرا كان أو نثرا، إذ في الصمت الذي يفخخ الكتاب تتوارى عواصف الكتابة، صخبها المدوي المحتجب خلف غابة الهدوء الموهوم، عنفها الهادر الرابض تحت سكينة صفحة البحيرة.

فلسفة الصمت بالنسبة الى كتابة كهذه هي التناغم الهارموني بين حقيقة الكتابة وطقوسية العدم الخلاق، العدم المنتج، المبدع. هكذا فانتفاء كل ما ينتمي إلى غوغائية المنطوق والمسموع، كلاما كان أو دندنة، هو المصطبة المقدسة التي يفلقون عليها رمانة الكتابة. أعمق من ذلك لا تستقيم الكتابة إلا بموسيقاها الداخلية، لا يتحقق معنى الكتابة إلا باتحادها المطلق مع هيولى أغوارها، مع ما يترسب تحت طبقاتها السفلية المجهولة، ولا يمكن لكل هذا أن يكون بدون أن تستمده بقوة من صلادة الصمت الطاعن في خلوة المكان، في كل ما يحيط بطقس العمل الفني، وبذا تمسي الكتابة في إحدى طفراتها الفلسفية ما يأتي من الصمت، ويذهب عمليا إلى الصمت.

ثانيا، من لا كتابة لهم إن لم تكن مشروطة بالموسيقى، محض متلازمة، إذ الأولى تحتكم إلى الثانية في خلق عوالمها الطارئة. تصير الكتابة وفق هذا النزوع ممتنة أو مدينة للموسيقى عند هؤلاء، إذ كيمياؤها ما يوقد اشتعالات سدم المنجز النصي، فهل على القارئ أن يحدس طبيعة وهوية الموسيقى التي كانت مصاحبة لفعل الكتابة لحظة إنجاز مسودة الكتاب قبل أن يطلقه صاحبه في سماء النشر؟ أم على الكاتب أن يكون شجاعا في الإقرار بما كان محرضا على كتابته لحظة إنجازه لمسودته، سواء كانت عملا موسيقيا أحاديا أو متعددا؟

مسألة احتكام هؤلاء الى الموسيقى في الكتابة نسبية، بما معناه أن حضورها في فعل كتابتهم لا يغدو أن يكون طيفا من أطياف استئناسهم بالمناخ العام الذي تجري فيه غرابة إبداعهم.

في كل الأحوال، شيء غامض يحدث في ملابسات التفاعل بين الكتابة والموسيقى، يمكن تفسيره بتعود الكاتب على هارمونيا صوتية تتواطأ مع إيقاعية كتابته، نهرية كانت على سبيل المجاز أو بمثابة زحف عشب أو غابة، وربما اندلاق غيوم في اتجاه اللامعلوم.

ومن كتابتهم لا تشترط لا الصمت ولا الموسيقى، إنما ينتصرون للكتابة في تجردها عن العام، وانكفائها على الخاص الذي يمثله عالمها المفرد، الجواني، المستقل. لا شيء يؤثر في فاعلية الكتابة عند هؤلاء، فمتعة وغرابة ما هو داخلي لحظة الكتابة، تلغي سلطة ما هو خارجي، صورة كان أو صوتا، صمتا كان أو صخبا. الكتابة عند هؤلاء لا تكترث بنشاز الخارج، ولا تبالي إلا بما تجترحه هي، ما هي منهمكة في هندسته وابتكاره.

تتحرر الكتابة غير الآبهة بالمناخ الذي تحدث فيه، إذ تتماهى مع جنونها وتطرفها، منصرفة إلى ما يعتمل فيها من أشياء خاصة بها لا غير. أشياء هي ما يصنعها وهي ما ينجرف معها صوب الحدود القصوى، منسلخة عما يطوقها في الفضاء من أصوات وألوان وشتى أشكال القيود، رمزية كانت أو مادية.

 تتحرر الكتابة غير الآبهة بالمناخ الذي تحدث فيه، إذ تتماهى مع جنونها وتطرفها، منصرفة إلى ما يعتمل فيها

لا موسيقى إلا ما يجترحه إيقاع الكتابة ذاته، لا صمت إلا ما يتقعر كينونة الكتابة ذاتها، لا تأثير يأتي من الخارج، بل ما يأتي من الداخل والداخل لا غير.

قد ننحاز الى الحالتين الوجوديتين الأولى والثالثة في تقدير الكتابة وعلاقتها بالصمت والموسيقى، ونجافي الحالة الثانية التي تشترط الموسيقى المصاحبة كمتلازمة، لكن، في كل الأحوال، ما يشفع للكتابة هو جماليات إبداعيتها في النهاية، وأما المناخ الذي تحققت فيه كمسودة فمجرد فضول للتقرب من الصورة الأمينة التي نشأ فيها الكتاب، كواليسه أو سيرته قبل أن يخرج من غسق النفق إلى النور.

font change