عن إيمان خليف التي انتصرت لنساء العالم ضدّ النمطية والتحيّز

أول عربية وأفريقية تحرز ذهبيّة الملاكمة في الأولمبياد

Axel Rangel García
Axel Rangel García

عن إيمان خليف التي انتصرت لنساء العالم ضدّ النمطية والتحيّز

جاء فوز الملاكمة الجزائرية إيمان خليف بميدالية ذهبية في أولمبياد باريس 2024، بعد فوزها بإجماع الحكام على الصينية ليو يانغ، الجمعة الماضي، ليتوّج مسيرة لم تبدأ في باريس، بل سبقها كفاح مرير، ليس في حلبة الملاكمة فحسب، بل في مواجهة الأحكام المسبقة والنمطية، شرقا وغربا، ضدّ المرأة عموما، وضدّ من لا يندرجن (ويندرجون) في سياق الصورة المكرّسة عن "الذكورة" و"الأنوثة".

"اللكمة الماهرة لا تتعلق بالجنس، بل بالتقنية والتدريب"، هذا ما يقوله المذيع التلفزيوني الألماني ستيفان راب. لكن كم تبلغ نسبة الذين يصغون إلى قول كهذا في حمأة المنافسات الرياضية التي تخطّت في يومنا هذا حاجز معناها وغايتها، فأصبحت من أهم منصات السياسة والاقتصاد والمال والدعاية، وبالتالي تجرّ معها وتستنهض العواطف والمشاعر في ذراها الانفعالية حدّ التطرف أحيانا؟

طفولة شاقة وأحلام عظيمة

إيمان خليف، ابنة الريف الجزائري، والحياة الفقيرة والطفولة المحرومة والأحلام العظيمة التي دفعت أثمانها مسبقا، ولم تحبط في أوج تألقها الرياضي وهي في الخامسة والعشرين، عوملت بعدائية على الرغم من أن لها الحق في المنافسة، كما تقتضي القوانين والحقوق والضمير الإنساني أيضا. تعرّضت للتنمّر على نطاق واسع، فاليوم لم تعد الأمور محصورة بمتابعات الصحف والقنوات التلفزيونية، بل أصبحت الأحداث كلها متاحة للجميع في لحظة وقوعها بالبث المباشر على الشاشات وعلى كثير من المنصات التي أتاحتها التقنية الرقمية، وأضيفت إلى الوسائل التقليدية منصات التواصل الاجتماعي التي تفعل فعلها أكثر من جيش مدرب، هذا التنمر الذي يجعل من جسد المرأة دريئة ويسدّد نحوها.

 نطاق الرياضة يستثير غريزة الجمهور، فهي مبنية على المنافسة والنزال، ولا يهتم الجمهور كثيرا بثقافة الجسد

في الطبيعة، ولدى الكائنات الحية لا توجد قيم مطلقة، لا معايير ثابتة، بل نحن من نصنع المعايير، لا يوجد شكل نموذج للأنثى وآخر للذكر، توجد نسب، هناك أشكال تحقق نسبة أعلى من غيرها، وأشكال أخرى يمكن عدّها "أقليّة"، والأقليّة في كل مجال تتعرض للمضايقة. في أثناء دراستي الطب، تعرّفنا في تشريح جسم الإنسان الى أربعة نماذج للحوض الأنثوي، الشكل النسائي وهو الغالب، والشكل البيضاوي والشكل المسطح، والشكل الذكري. نعم هناك نساء تشبه أجسادهن الرجال، لكنهن نساء، وهذا لا يعيبهن، إنما ما يعيب هو الضمير الإنساني الذي يتبع الأهواء في أحوال متنوعة.

AFP
الفائزة بالميدالية الذهبية الجزائرية إيمان خليف على منصة التتويج خلال حفل توزيع الميداليات لفئة الملاكمة النهائية للسيدات وزن 66 كغم خلال دورة الألعاب الأولمبية باريس 2024

وهناك بعض الحالات التي تتعدى فيها قيم الهورمونات الجنسية نسبها المألوفة لدى غالبية النوع، نساء يمكن أن تكون مستويات التستوستيرون عالية لديهن لكنهن نساء، وذكور في المقابل لديهم مستويات أعلى من المعتاد من الهورمونات الأنثوية، الإيستروجين بالتحديد، لكنهم ذكور. فهل يتطلب الأمر من الجمهور الرياضي أن يكون ملمّا بهذه الأمور حتى تكون نظرته أكثر موضوعية؟ وإذا توافرت المعرفة بها، هل هذا سينهي الأحكام المسبقة ويقضي على التنمر؟ بالطبع لا، فنطاق الرياضة يستثير غريزة الجمهور، فهي مبنية على المنافسة والنزال، ولا يهتم الجمهور كثيرا بثقافة الجسد، لكن الجهات المعنية وحاملة المسؤولية ليست معفاة من المعرفة.

جمرة العنصرية

في الواقع لا يزال العالم مستقطبا، بل ازداد استقطابه في عصرنا الحالي، واستفاقت النزعات العنصرية، التي يبدو أن نضالات البشرية وثورات الشعوب وتجاربها التحررية، وشرعة حقوق الإنسان، كلها لم تطفئ جمرة العنصرية، وتفوّق الرجل الأبيض، والنظرة الاستعلائية تجاه جنوب العالم، بل ها هي تتقد من جديد.   

"لقد سافرت الكذبة حول الأرض ثلاث مرات قبل أن تلتقط الحقيقة حذاءها"، هذا الاقتباس منسوب إلى مارك توين، وينسب إليه أيضا قوله: "خداع الناس أسهل من إقناعهم بأنهم خُدعوا". في زمن الإنترنت والتواصل الاجتماعي ترجع سرعة انتشار الأخبار الزائفة إلى الحجم الهائل من مستخدمي الشبكة بمنصاتها المتنوعة، ونظرا إلى تبنّي التقارير الكاذبة ومشاركتها دون التحقق من صحتها، إما عن جهل، وإما بتخطيط مسبق من أجل صناعة رأي عام حول قضية ما، فإن الحقيقة تضيع، ولا تستطيع التقاط حذائها بسهولة، والجمهور المخدوع في شريحة كبيرة منه لا يمكن إقناعه في حمأة المنافسة والجدل بأنه خُدع، بل يكون جاهزا في لحظة كهذه أكثر لتلقّف ما يعزّز ثورة غضبه وانفعاله، وهناك من يلتقط هذه اللحظة لتحقيق أجندته الواضحة والمدروسة بإتقان من قبله.

استمرت الجولة بين إيمان خليف وأنجيلا كاريني 46 ثانية فقط، وما تلا ذلك كان حربا ثقافية تتسم بالتحيز والمعلومات المضللة والأكاذيب، وإيمان تجترّ ألمها وتحنو على حلمها في الوقت نفسه، فقد اندلع سجال ساخن في وسائل الإعلام والشبكات الاجتماعية بعد مباراتها هذه، ولكنها لم تكن عادلة على الإطلاق، كما يفترض بمجال كهذا، مجال الرياضة والمنافسات على مستوى العالم، وليس على مستوى إقليم أو مجموعة دول يجمع بينها ما يقصي غيرها. زعمت الإيطالية كاريني أنها شعرت بلكمة "لم يسبق لها مثيل"، وهي التي كانت تلقت رسائل قبل المباراة من الاتحاد الدولي للملاكمة الذي استبعد إيمان في العام 2023 مع التايوانية لين يو تينغ، بناء على ادعاء لم يستطع أن يبرهنه، بأنهما "ذكران"، كما أكد جيوفاني مالاجو رئيس اللجنة الأولمبية الوطنية الإيطالية، في مقابلة لصحيفة "لاستامبا" الرياضية، التي يطلب فيها الاتحاد الدولي من كاريني "خوض النزال وليس المنافسة، لأن خليف ليست امرأة". وعرض عليها رئيس الاتحاد العالمي للملاكمة، الروسي عمر كريمليو، مبلغ 100 ألف يورو كتعويض، وواستها رئيسة الحكومة الإيطالية، وطبطبت على كتفها وعانقتها، بينما دموع إيمان لم يكن لها قيمة عند بعضهم، ولم يكن والدها بقربها لكي يحضنها ويمسح دموعها.

أسئلة وجودية وفلسفية

في عصرنا الحالي، عصر التقدّم السريع في العلوم، والثورة الرقمية، والإنجازات العلمية الخارقة، في العلوم الطبية وفي علم الوراثة والجينات، تغير كثير من المفاهيم، واستبدل كثير من المفردات أو التسميات لتحل محلها مسمّيات جديدة على ضوء القفزات العلمية المتحققة التي واكبتها بعض الدول باجتراح قوانين جديدة تشمل هذه القفزات، مما يطرح أسئلة فلسفية ووجودية، ويربك أيضا الجهات الفاعلة في أوجه نشاط بشري متعددة، خاصة في مجال الرياضة، يضعها أمام أسئلة صعبة، ومن بين هذه الأسئلة الصعبة القضايا الجندرية، التي هي أيضا موضوعة تحت دائرة الضوء وتثير الجدالات الحامية.

لكن بالنسبة إلى قضية إيمان خليف، فإن حالتها وفق معايير اللجنة الأولمبية الدولية هي حالة طبيعية ومنسجمة مع تلك المعايير، فهي ولدت أنثى، وقيودها في السجلات المدنية أنثى، وعاشت أنثى، ولا يغير في هذه الوقائع كونها تميل إلى رياضات صُنّفت وفق الثقافة الجندرية الاجتماعية السائدة على أنها رياضات ذكورية، فهي لم تفعل شيئا محظورا، ربما منحتها الطبيعة نسبة أعلى من قريناتها من هورمون الذكورة، وهذا أمر وارد في الطبيعة البشرية، مما يمنحها قوة ومتانة عضلية أكبر، وتمكنها التدريبات الخاصة بدافع الشغف والإرادة وحلم التفوق، فأين المشكلة؟ المشكلة في تاريخ من تنميط المرأة وحصرها في جسدها، والحط من قيمتها في حال كانت خارج التصنيف المعتمد.

AP
الجزائرية إيمان خليف والصينية يانغ ليو خلال المباراة النهائية لوزن 66 كغم للسيدات

لكن ما جرى دفعت إيمان ضريبته عازمة على التحدّي، ما جرى كان حالة مركبة رسمت هيكلها الخلافات بين الاتحاد الدولي للملاكمة واللجنة الأولمبية، وخلافات سياسية بين يمين محافظ وجمهوره، ومعارضين له من بقية التوجهات السياسية، فكان التحدي الصعب المغمّس بالقهر بالنسبة إلى إيمان، وكأنها نموذج حي لأحلام الفقراء والشعوب الضعيفة، ونموذج لامرأة عليها أن تحارب ثقافة ذكورية ظالمة استباحت وعي المجتمعات، لا فرق بين مجتمعات متحضرة وأخرى ما زالت ترزح تحت عبء الموروث بكل حمولته المتكلّسة، فما زالت المرأة إلى اليوم تتعرّض للتنمر مهما استلمت من مناصب عليا، ومهما أظهرت من جدارة فيها، إذ يبقى جسدها "المنحوت" وفق هذه المعايير هو الدريئة التي يصوّب عليها. ما حصل لإيمان اليوم يشبه ما حصل لملكة جمال ألمانيا، الإيرانية الأصل، أباميه شوناور، منذ عدة شهور، وتعرضها للتنمر الشديد لأنها حطمت "الصورة النمطية" عن "ملكات الجمال"، ولأنها في جانب منها "مهاجرة". فاستهدفت بسبب عمرها (39 عاما) وبسبب كونها أمّا لولدين، وصاحبة مشروع نسوي، يمكّن النساء، المهاجرات منهن على وجه الخصوص. لقد تعرضت للتنمر والكراهية في أعتى صورهما، لأنها مثّلت المرأة كما يجب أن تكون: "إنسانة" متكاملة وليست جسدا فحسب.

ماذا لو خسرت؟

يبقى السؤال المهم الذي يفنّد كثيرا مما جرى مع إيمان: ماذا لو خسرت ولم تصنع فوزها بإصرار وعزيمة على الرغم من كلّ ما تلقّت من هجوم وممارسات عدائية؟ هل كانت ستعلو تلك الأصوات وتتدفق كل تلك المضايقات والاعتداءات عليها؟ بل هل كان أحد سيشير إلى شكل جسدها، الذي لا علاقة لها به، ولا يمنع كونها أنثى؟ سؤال يدفعنا إلى التفكير بأنه لا يمكن تداول قضية إيمان بعيدا من العنصرية ومن الصراعات السياسية، إذ سرعان ما تحوّل الجدال حولها من جدال رياضي إلى آخر سياسي.

لا يمكن تداول قضية إيمان بعيدا من العنصرية ومن الصراعات السياسية، إذ سرعان ما تحوّل الجدال حولها من جدال رياضي إلى آخر سياسي

ما يؤكّد هذه الزوبعة المفتعلة، أنها كانت معروفة لدى اتحاد الملاكمة، فهي تدربت في أسيزي وكانت حاملة علم دورة ألعاب البحر الأبيض المتوسط التي أقيمت في وهران عام 2022، ومررته إلى تارانتو حيث ستقام النسخة المقبلة من الألعاب، في أغسطس/ آب 2026، وهذا يدل على أنها ليست رياضية مجهولة، بل لديها تاريخ من المنافسات في الملاكمة النسائية، خسرت قبلها كثيرا منها إلى أن تمكنت وأخذت تحقق الفوز، فكيف تثير مشاركتها الحالية كل هذه الزوبعة؟ "إنها أكبر من زوبعة في فنجان".

REUTERS
إيمان خليف خلال احتفالها بالفوز

حتى رئيس اللجنة الأولمبية الإيطالية جيوفاني مالاجو عبّر عن اعتقاده بأن القضية لا علاقة لها بالرياضة: "كل شيء تستغله السياسة اليوم. إن الحملة ضد خليف، التي اتسمت في البداية بالتصريح الكاذب بأنها متحوّلة جنسيا، بدأت على الأقل في إيطاليا من قبل السياسيين اليمينيين، وبينما حاول ممثلو اللجنة طمأنة كاريني قبل النزال، تم تناول القضية سياسيا في وسائل التواصل الاجتماعي".

ما حصل لإيمان، يحصل بأشكال متنوعة اليوم، وكلها تثير القلق من مستقبل البشرية التي تخوض اليوم معارك من أجل منع السقوط الأخلاقي ودفع الحياة إلى الأمام بدلا من انتكاساتها الكثيرة، ونكوصها نحو فترات مظلمة من التاريخ.

font change

مقالات ذات صلة