بعد أكثر من عقد من الزمن وهو يحارب ويقاتل السوريين بذريعة أن من يقاتلهم تكفيريون ومتطرفون، انتقل أمين عام "حزب الله" حسن نصرالله في خطابه الأخير إلى تخوين المعارضة العلمانية، معطيا أحكاما تخفيفية، إن جاز التعبير، للمعارضة الإسلامية.
وبعدما كان الخوف وفقا لكلام نصرالله سابقا هو "سقوط" سوريا بيد الإرهاب والتكفيرين"، صار الخوف والخطر هو وصول المعارضة العلمانية إلى الحكم في سوريا، وهو- حسب زعمه- ما ستقوم به إسرائيل إن خسرت "المقاومة" المعركة، لتضمن أن يكون من يحكم سوريا "صديقا لها وأداة من أدواتها وعميلا من عملائها".
منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وبعد عملية "طوفان الأقصى" وإعلان إسرائيل حربا مفتوحة على الفلسطينيين، تصاعد خطاب إعلامي وسياسي في العالم العربي، بضرورة "تأجيل" و"تناسي" الخلافات مع إيران و"حزب الله" وحتى الحوثيين وكل من يدور في فلك طهران، لأن المعركة اليوم هي في فلسطين ومن أجل فلسطين. وأصبحت جرائم الميليشيات الإيرانية على مدى 21 عاما في العراق، وما ارتكبته هذه الميليشيات وعلى رأسها "حزب الله" على مدى أكثر من 13 عاما في سوريا، ناهيك عن جرائم الحوثي المستمرة في اليمن، أصبحت أمرا ثانويا يمكن التغاضي عنه، كون المعركة الكبرى اليوم هي بين هذا المحور وإسرائيل.
وبعد اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" إسماعيل هنية في طهران، تصاعد خطاب يُطالب بنبذ الخلافات الطائفية بين السنة والشيعة، فالمعركة اليوم هي مع إسرائيل، ولا وقت لهذه الخلافات.
الخلاف ليس طائفيا، كان التخوين يأتي من الإسلاميين من الطرفين اللذين يعتاشان على هذه الخلافات
إحدى الصحف الموالية لـ"حزب الله" والممولة من طهران كتبت قبل أيام: "في الدول العربية اليوم، اختفى الفالق السني-الشيعي لتحل محلّه الحقيقة المؤلمة المتمثّلة بانسحاق بعض الأنظمة العربية (السنّية)، وتنازلها لمصلحة (إسرائيل) ووقوفها إلى جانبها في مواجهة (سنّة فلسطين)"، وهذا ما حذرنا وحذر منه الكثيرون منذ بداية الحرب: شيطنة الدول العربية لصالح الجماعات الدينية وإيران والمحور.
لم يكن الخلاف مع سياسة طهران في المنطقة خلافا طائفيا، ولكن من أراده أن يكون كذلك هي طهران نفسها، ألم يدخل "حزب الله" إلى سوريا تحت شعار "لن تُسبى زينب مرتين"؟ ألم يحتل "حزب الله" مدينة القصير ويُهجر أهلها ليرفع بعدها شعارات طائفية على مساجد المدينة؟
في كل مرة كنا نقول إن الخلاف ليس خلافا طائفيا، كان التخوين يأتي من الإسلاميين من الطرفين اللذين يعتاشان على هذه الخلافات، وهل من أمر قد يثير الغرائز ويحمس الجماهير بقدر الخطاب الطائفي؟
هذا الخطاب نفسه لم يخدم فقط سردية إيران خلال سنوات محاولاتها التوسعية في الدول العربية، ولكنه أيضا خدم ويخدم إسرائيل وسردية "يهودية الدولة".
إن من سعّروا هذا الخطاب وحولوا الثورة السورية إلى حرب مذهبية، هم أنفسهم الذين يريدون اليوم نبذ الخلافات المذهبية، ومجددا بذريعة تحرير فلسطين.
الحقيقة أن إيران ومن معها قتلوا كما تقتل إسرائيل، وهجروا كما تهجر إسرائيل، ونكلوا بالشعوب كما تفعل إسرائيل، فإن كانت إيران شيعية أو سنية أو أيا ما تكون، فهذا لا يغير من حقيقة وجوهر الأمر شيئا
الخلافات كانت مذهبية في خطابهم هم، وخطاب إعلامهم ومن يدير إعلامهم ويموله، أما الحقيقة ففي مكان آخر، الحقيقة أن إيران ومن معها قتلوا كما تقتل إسرائيل، وهجروا كما تهجر إسرائيل، ونكلوا بالشعوب كما تفعل إسرائيل، فإن كانت إيران شيعية أو سنية أو أيا ما تكون، فهذا لا يغير من حقيقة وجوهر الأمر شيئا، وهو حلمها التوسعي وصولا إلى المتوسط والسيطرة على المنطقة.
بُعيد بدء الحرب على غزة بأسابيع قليلة، سألت على صفحات "المجلة": "من سيأخذنا على محمل الجد ونحن نندد ونستنكر ونقول أوقفوا الحرب على غزة؟"، كيف نُطالب بملاحقة مجرم حرب وفي الوقت نفسه نتغاضى عن مجرم آخر؟ كيف نفاضل بين مجرمين وبين ضحيتين؟
الخلافات بين المذاهب والمدارس الدينية شأن فقهي متروك لرجال الدين والاختصاص، أما الوطن فللجميع، ومن حوّل الخلافات والمعارك في السنوات الـ13 أو الـ21 الأخيرة إلى حروب مذهبية وطائفية، يريد اليوم استغلال ما يحصل في غزة وجرائم إسرائيل بحق الفلسطينيين ليقول: "عفا الله عما سلف"، لا ليحقق وحدة مذهبية بين الطوائف، بل ليعود جناحا الجماعة إلى التنسيق لتفتيت ما بقي من مفهوم الدولة والمواطن.