الفلسفة جسر الأدب إلى تعقيدات الحياة
"الثيمات الفلسفية في الرواية الجزائرية" كتاب نقدي جديد لأحمد رزوق
الفلسفة جسر الأدب إلى تعقيدات الحياة
يرى الباحث الجزائري أحمد رزوق في آخر أعماله النقدية، "الثيمات الفلسفية في الرواية الجزائرية"، الصادر أخيرا عن "دار ماروشكا" الجزائرية، أن الأدب أهمّ الوسائط الفنية التي في مقدورها تجسيد تفاصيل الحياة الدقيقة بكل تعقيداتها. فهو يعمل بمثابة مقياس يعطينا تقديرات دائمة لحالة الإنسان، إذ يرى أن الخيال الأدبي على وجه الخصوص يمتدّ إلى ما هو أبعد من النطاق الفوري لنيات المؤلف، ليحمل أغراضا شتّى توسع آفاق القارئ بوسائل بديلة.
يبرر الكاتب عقيدته هذه عبر ما سجّله بفضل قراءاته ودراسته للرواية بشكل عام. ولعلّ أهمّ ما سجله هو ما تفضي إليه الرواية التخييلية من تعايش بين عناصر غريبة عن وعي الإنسان المباشر، كلّما خاضت في الفلسفة أو استعانت بها، في اتحاد فنيّ مبهج بين الأدب والفلسفة، كثيرا ما يمنح العقل خيارات أوسع في ما يتعلّق بالبحث الفكري.
الأدب أكثر واقعية من الحياة
يستحضر الدكتور رزوق الفيلسوف الإنكليزي برنارد ويليامز، المشتغل على الأخلاقية من خلال أعماله الفريدة، "مسائل في الذات" و"الحظ الأخلاقي" و"الأخلاق وحدود الفلسفة" وأخيرا "الحق والصدق"، وهي الأعمال التي رشحته ليكون أهم الفلاسفة الأخلاقيين في هذا القرن، والتي انتهج فيها منهجا مخالفا لجميع الفلاسفة، فهو على عكسهم لم يستمد قطّ أمثلته من الواقع بل عمد إلى تأمّل الأعمال الأدبية والاستنباط منها، وهذا ما أثار حفيظة نظرائه الفلاسفة حتى جاءهم جوابه المفحم: "إن ما سيقدمه الفلاسفة لأنفسهم ولقرائهم كبديل من الأدب لن يكون الحياة، بل هو مجرد أدب سيء"، فالأدب بالنسبة إلى ويليامز ليس هروبا من الواقع، ولا تصوّرا فنيا له بل هو الواقع بحدّ ذاته، إن لم يكن في بعض نماذجه أكثر واقعية من الحياة نفسها.
إنَّ ما سيقدمه الفلاسفة لأنفسهم ولقرائهم كبديل من الأدب لن يكون الحياة، بل هو مجرد أدب سيء
ينأى صاحب "الثيمات الفلسفية في الرواية الجزائرية" بنفسه عن التصوّر القائل بأن الرواية وجدت للترفيه، بل يرى أنها أكثر ضروب الكتابة تعبيرا عن الحياة، وأقدرها على التفاعل مع تعقيدات الواقع، حتى وإن خاضت في التخييل المطلق واعتمدت أساليب تجمع بين الغرائبية والفانتازيا. وفق هذه الرؤية، أسقط الكاتب نماذج مختلفة من الرواية الجزائرية، المكتوبة بالفرنسية، فحاول في كتابه دراسة أعمال بعينها بحثا عن خطاب فلسفي يتجاوز البنى السردية البسيطة، وإبراز الطرق التي يتجذر بها العديد من التيارات الفلسفية العميقة داخل التقليد الأدبي الجزائري، ويذكر الناقد أنه خلال تدريسه مواد الأدب على مستوى الجامعة، لاحظ أنماطا ملحوظة في تفضيلات القراءة لدى طلابه، فكلّما سألهم عن رواياتهم المفضلة ذكروا له أعمالا أدبية غير جزائرية، ونادرا ما تتضمن إجاباتهم روايات جزائرية، لكنه لاحظ في المقابل أن ميولهم هذه وخياراتهم لا يملكون لها أيّ مبرر فنيّ، بل يكتفون لتبريرها بجملة لا تقول شيئا مثلما قد توهم به: "ليس للنصوص الجزائرية الكثير لتقدمه".
حدود العالمية
وقع اختيار الكاتب في دراسته هذه على أسماء ينضوي جلّها تحت مظلة الأدب الفرنكوفوني على غرار مليكة مقدّم وآسيا جبّار ومالك حدّاد وياسمينة خضرة ومولود فرعون وشوقي عمّاري وكمال داوود وكوثر عظيمي، وهي نماذج تمثل أجيالا مختلفة وأنماطا سردية متنوعة، تمكّنت على نحو ما من التغلغل في المشهدين الأدبيين في الجزائر وفرنسا بدرجات متفاوتة.
يقول الكاتب متناولا رواية "المرأة المحرّمة" لمليكة مقدم إنها على عكس ما تظهر عليه، لم تستمدّ قوتها من الواقع المأسوي للمرأة في المجتمعات المغلقة فحسب، بل أيضا من توظيفها نظريات ما بعد الحداثة لجان فرانسوا ليوتار (1924-1998)، الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي الذي يعود إليه فضل إدراج مصطلح "ما بعد الحداثة" في العلوم الاجتماعية والفلسفة، كما استمد عمل مقدّم قوته أيضا من الفلسفة النسوية الوجودية لسيمون دو بوفوار (1908-1986)، مما سمح للروائية بتفكيك طبقات القيود المجتمعية وتثبيت موضوع المقاومة المستمر ضد عدم المساواة المتجذرة بين الجنسين، وهو ما يثبت قدرة العمل الروائي إذا اتحد مع الفلسفة، على خلق عالم سرديّ يتم بالقوّة الفنيّة من جهة، وبتمكين الخيال من الواقع على نحوٍ يسمح بتعريته وتشريحه وفضحه أيضا من جهة أخرى. لكنّ الأهم من كلّ ذلك هو أن هذا الاتحاد سمح لنصّ مليكة مقدّم بتجاوز الحدود اللغوية والثقافية بحيث لم يحتج إلى شيء آخر ليصبح نصا عالميا بامتياز.
استقراء نيتشويّ
في فصله المعنون "الصراع بين الدروب الوعرة" لمولود فرعون و"المكيدة" لآسيا جبار، يحاول أحمد رزوق إلقاء الضوء على الخيارات الفلسفية التي تبناها كل من فرعون وجبار، حتى تمكنا من كتابة نصين روّضا الواقع في سردية استطاعت تصوير الجيل نفسه بوجهتي نظر، رغم اختلافهما الظاهر، تتقاطعان في حقيقة هويته المستقلّة المتفرّدة التي كانت السبب المباشر في اصطدامه مع "الآخر" المستعمر. فلئن كانت "الدروب الوعرة" كما قال صاحبها تصويرا لارتباك جيل نصف متطوِّر، مستعدٍّ للذوبان في العالم الحديث، وهو جيل جدير بالاهتمام بلا شك، يستحق الخلاص وإن بدا الطريق إليه غامضا، فقد كان واضحا ألا سبيل إليه إلا بالاختيار بين حقيقتين مستحيلتين: التخلّي عن الذات أو الزوال. وهكذا فإن رواية "المكيدة" لآسيا جبار تكشف عن الطرق العميقة التي يمكن أن تتسبب في اضطراب الأفراد وغرقهم في نزاعات مستمرة، وهي طرق فرضتها بلا شك هوّيتهم المختلفة المضطربة بشكل ما.
أهم الصفات المميزة الكامنة في الأدب، تظهر في قدرته الرائعة على توفير جسر يمتد نحو حياة مستقلة عن حياتنا
مقاربة عملَي فرعون وجبار، جعلت الكاتب يصل إلى النتيجة عينها التي بلغها وهو يدرس رواية مليكة مقدم، في ما يخصّ اتحاد الأدب بالفلسفة وما ينجم عنه من نصوص تماهي العالمية بطريقة ما، ليس فقط في ما تعلّق بالنصين موضوع الدراسة بل بجميع أعمالهما، إذ تتميز روايات فرعون وجبار بقدرتهما على كسر فهمنا للطبيعية، وتسمح لنا بالتطلع إلى ما لم نكن عليه، لنتمكن من الوصول إليه، وهما في ذلك استعانا عن إدراك أو من دونه بالاستقراء النيتشوي (نسبة إلى نيتشه)، الذي يسمح لنا بفهم الحياة في أقصى نطاقاتها وتموقعاتها بين النور والظلمة وبين الخير والشر.
إنجازات الأدب الحقيقيّ
تناول الكتاب أهم الصفات المتميزة الكامنة في الأدب، التي تظهر في قدرته الرائعة على توفير جسر يمتد نحو حياة مستقلة عن حياتنا، وهو ما قاله صاحب العمل بالتحديد، بحيث يتجاوز الأدب حدود التجربة الشخصية ويدعو قرّاءه إلى إلقاء نظرة على عوالم قد تبقى خارج نطاق واقعهم المباشر. يقول رزوق مبررا النتائج التي توصل إليها في دراسته: "إذا أضفنا الفلسفة إلى هذا المزيج، نجد أنفسنا مجهزين بأدوات تمكّننا ليس فقط من إدراك بعض من حياة الآخرين، بل أيضا من إدراك إمكان فهمهم بشكل أعمق. في جوهره، يحقق الأدب ثلاثة إنجازات ملحوظة بشكل متزامن: يستكشف أعماق هوياتنا الفردية، ويمتد بيد الوصول نحو الآخرين، ويساعدنا في فك غموضات الحياة الملتبسة. الأدب الجزائري بالتأكيد لا يقلّ عن ذلك. الأدب في جوهره عالمي، ومع ذلك، أجد أنه من الضروري تأكيد التجربة الروحانية عندما ننغمس في تقاليدنا الأدبية الأصلية. بينما يعتبر استكشاف، على سبيل المثل، اليأس العميق داخل سرد دوستويفسكي أو تعقيدات الحياة الجنوبية في فوكنر، مجزيا وخالدا بلا شك - إلا أنه لا يمكن أن يصل إلى التواصل العميق الذي نشعر به عند التفاعل مع كتّابنا الأصليين. ليس من مفاجأة؛ فالتربة نفسها لميلادنا".