التعبيرية الألمانية
ليست المدرسة التعبيرية بمفهومها الجمالي في سينما عشرينات القرن الماضي الألمانية، ببعيدة عن سينما لينش. يتحوّل الموسيقيّ قبل إعدامه إلى ميكانيكي سيارات، إلى شخص آخر لا يحب الموسيقى، وإن كان التحوّل ما فوق الطبيعي في الفيلم لا يصل في غرابته وغموضه إلى تحوّل غريغور سامسا بطل كافكا في قصة "التحول"، التي كانت مشروع فيلم فكّر فيه لينش كثيرا.
إنها أرض غريبة، أرض انطباعات قوية، حسيّة، شديدة العداء للأفكار، أُطلق عليها Lynchland، أو "اللينشوية"، بعد فيلمه "قطيفة زرقاء" Blue Velvet (1986). الملمح الذي يلتصق بالذاكرة في الفيلم، هو الأذن المقطوعة التي يجدها جيفري على العشب أثناء زيارته والده في المستشفى. أذن مزعجة، مؤرقة، تُطارد بحضورها الملح، تمحو وتؤكد الجسد الذي فارقته.
إيزابيلا روسيليني من فيلم "قطيفة زرقاء"
تلك الأذن البشرية يُرجّح أنها فُصلتْ بمقصّ، وهي مُشرَّعة إلى السماء، تسمع وتسجّل أصواتا غامضة بعيدا عن صاحبها. جيفري تقوده حكاية الأذن إلى مبنى "ديب ريفر"، مبنى فيكتوري قديم، كأنه في قصة لإدغار ألن بو، أو كأنه اسم أغنية "بلوز". الغرابة عند لينش ليس لها باطن، تتراكم طوال الوقت مثلما تتراكم طبقات من التربة، أو هي غرابة تقاوم المعنى والـتأويل، يكفي فقط الوقوف عندها. المبنى نهر عميق، وفي هذا النهر تقطن المغنية دورثي فالنس (إيزابيلا روسيليني). كانت ترتدي ثوبا من القطيفة الزرقاء، وكان الليل أشد عتمة من ثوبها، هكذا تغني دورثي في الملهى الليلي. يتسلل جيفري إلى شقة دورثي بمساعدة ساندي ابنة محقق الشرطة.
لا ينجذب جيفري إلى أجواء الجريمة من طريق الإثارة الهيتشكوكية المعتمدة في أفلام الجريمة، بل من طريق المعرفة شبه العلمية الباردة التي يتزود بها مثلا بعد قراءة كتاب عن حياة النمل الأحمر، وهذا يضع الفيلم في منطقة نائية. يُقدِّر لينش كائنات التربة، ومنها النمل، وليست مصادفة أن يتجوّل النمل على الأذن المقطوعة، وفي سينما لينش هناك لقطات كثيرة شديدة القرب، وكأنها تبحث عن شيء دقيق، شيء يختبئ في تربة غنية.
يختبئ جيفري في خزانة ملابس دورثي. ضيق شقة دورثي من الداخل لا يتناسب مع حجم المبنى المهيب، من الخارج، النهر العميق لا يسمح لكائناته بحركة مريحة، والحوائط تهيمن بكابوسية على رؤية الكاميرا. يرى جيفري من خِصَاص خزانة الملابس مشهدا مرعبا، يغتصب فيه فرانك المريض بسادية متطرفة، دورثي. والأكثر رعبا أن دورثي تستسلم بمازوخية إلى فرانك.
صور لا كلمات
ابتعد ديفيد لينش في أفلامه اللاحقة عن التوغل في المشاهد الجنسية، طالما أن أرضه الغريبة الغامضة كما في تحفته "إنلاند إمباير" (2006)، تجسدت دون الحاجة إلى مشاهد جنسية يبتلعها بسهولة علم النفس، كما ابتلع فيلم "سالو" (1957) لبازوليني، وفيلم "شبق" (2013) للارس فون ترير.
محاولة الاقتراب بالكلمات من فيلم لينش، "مولهولاند درايف" (2001)، هي محاولة محفوفة بالاخطار، فلينش نفسه لا يحبّ الكلمات، ويفضِل عليها الصور والأصوات وموسيقى "البوب" و"الروك"، وهو يعتمد على سيناريوهات وحوارات تتوقف قيمتها فقط على رفعها عبر الأداء والصورة والصوت والتركيب الزماني والمكاني للفيلم إلى ذروة فنية في غاية التعقيد، بحيث تبدو العلاقات النهائية للدراما مثل علاقة الأسباب بالنتائج، غريبة، مختلة، غير متوازنة، تدفعنا دائما إلى منطق الأحلام والكوابيس.
نعومي واتس ولورا هارينج في فيلم "مولهولاند درايف"
سقطت جميع محاولاتي السابقة في الكتابة عن فيلم "مولهولاند درايف"، في الفراغ، مثلما سقطتْ آمال ستراغون وفلاديمير بلقاء لم يتحقق مع غودو عند شجرة ميتة في مسرحية صموئيل بيكيت "في انتظار غودو"، وها هي محاولة أخرى، وربما أخيرة، وبالكلمات أيضا، للقاء الفيلم. غرفة أعمال في هوليوود. أحد الأخوين كاستلياني يُخرج صورة فوتوغرافية بالأبيض والأسود، لكاميلا رودس، ويمررها على المنضدة في اتجاه المخرج آدم كيشر ومدير أعماله واثنين من فريق الإنتاج، بينما يقول الأخ الآخر: "هذه هي الفتاة"، وكأنّ العبارة تعويذة شريرة تسيطر على أجواء الفيلم. يسود التوتر، يعترض المخرج على ترشيح الممثلة. يكرر الأخوان كاستلياني "هذه هي الفتاة".
أحد الأخوين يطلب قهوة ومنديلا. وهنا نستطيع القول بأن لينش يصنع من لا شيء، تحت أعيننا، بالصمت والأداء، قيمة كبرى، فموضوع القهوة الثانوي والعابر، يضاهي فجأة عبارة "هذه هي الفتاة". يبصق كاستلياني ببطء القهوة على أكبر مساحة من المنديل الأبيض دون سقوط نقطة قهوة خارج المنديل. يزداد التوتر. يعترض أحد أعضاء فريق الإنتاج، بأن القهوة من أفضل الأنواع. يصرخ أحد الأخوين كاستلياني، بينما يقول الآخر "هذه هي الفتاة".