ديفيد لينش على حافة الاعتزال... جوّال في أرض غريبةhttps://www.majalla.com/node/321814/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%AF%D9%8A%D9%81%D9%8A%D8%AF-%D9%84%D9%8A%D9%86%D8%B4-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%AD%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B9%D8%AA%D8%B2%D8%A7%D9%84-%D8%AC%D9%88%D9%91%D8%A7%D9%84-%D9%81%D9%8A-%D8%A3%D8%B1%D8%B6-%D8%BA%D8%B1%D9%8A%D8%A8%D8%A9
أعلن المخرج الأميركي الكبير ديفيد لينش إصابته بمرض رئويّ يمنعه من الخروج من المنزل خشية التعرض لأيّ مرض، ولعدم قدرته على السير دون لهاث، وعلى الرغم من أنه لم يعلن اعتزاله الإخراج السينمائي، إلا أن اضطراره إلى ملازمة المنزل ربما يحرمه الوقوف خلف الكاميرا من جديد، على الرغم من إشارته إلى أنه قد يحاول إطلاق مشاريع جديدة عن بعد. هنا مقالة عن سينما لينش في هذه المناسبة.
يعتمد ديفيد لينش في أفلامه على الغموض والغرابة، وهو بهذا شديد البعد عن الإثارة والتشويق لدى ألفرد هيتشكوك. ربما تحتاج مشاهدة أفلام لينش إلى التفكير في تفسيرات منطقية عديدة، وهي تفسيرات لا تهدف إلى تسليط الضوء على الغامض والغريب، بل التأكد في كل مرة من لا جدواها.
في فيلم "طريق سريع مفقود" Lost Highway (1997)، هناك موسيقيّ يُساق إلى قتل زوجته عبر أشرطة فيديو تُوضع أمام بيته. جريمة القتل لا تبتعد عن بيت الموسيقيّ، والأغرب من هذا أن أشرطة الفيديو لا تكشف جغرافيا البيت، أو المكان، أكثر من مشاهد البيت نفسه، فالمكان عند لينش نسقط فيه سقوطا حرا، ولا نعرف أبعاده، وهذا يُعمِّق الإحساس بالضياع. يضع لينش ثقله الفني عادة على شريط الصوت، والظلال القاتمة، والهمس بكلمات مقتضبة، ولحظات صمت طويلة، فهو مثل جيم جارموش، من أكثر المخرجين قدرة على الوقوف على ملامح وجه الممثل، ليصنع من لا شيء تعبيرا قويا.
الغرابة عند لينش ليس لها باطن، تتراكم طوال الوقت مثلما تتراكم طبقات من التربة
التعبيرية الألمانية
ليست المدرسة التعبيرية بمفهومها الجمالي في سينما عشرينات القرن الماضي الألمانية، ببعيدة عن سينما لينش. يتحوّل الموسيقيّ قبل إعدامه إلى ميكانيكي سيارات، إلى شخص آخر لا يحب الموسيقى، وإن كان التحوّل ما فوق الطبيعي في الفيلم لا يصل في غرابته وغموضه إلى تحوّل غريغور سامسا بطل كافكا في قصة "التحول"، التي كانت مشروع فيلم فكّر فيه لينش كثيرا.
إنها أرض غريبة، أرض انطباعات قوية، حسيّة، شديدة العداء للأفكار، أُطلق عليها Lynchland، أو "اللينشوية"، بعد فيلمه "قطيفة زرقاء" Blue Velvet (1986). الملمح الذي يلتصق بالذاكرة في الفيلم، هو الأذن المقطوعة التي يجدها جيفري على العشب أثناء زيارته والده في المستشفى. أذن مزعجة، مؤرقة، تُطارد بحضورها الملح، تمحو وتؤكد الجسد الذي فارقته.
تلك الأذن البشرية يُرجّح أنها فُصلتْ بمقصّ، وهي مُشرَّعة إلى السماء، تسمع وتسجّل أصواتا غامضة بعيدا عن صاحبها. جيفري تقوده حكاية الأذن إلى مبنى "ديب ريفر"، مبنى فيكتوري قديم، كأنه في قصة لإدغار ألن بو، أو كأنه اسم أغنية "بلوز". الغرابة عند لينش ليس لها باطن، تتراكم طوال الوقت مثلما تتراكم طبقات من التربة، أو هي غرابة تقاوم المعنى والـتأويل، يكفي فقط الوقوف عندها. المبنى نهر عميق، وفي هذا النهر تقطن المغنية دورثي فالنس (إيزابيلا روسيليني). كانت ترتدي ثوبا من القطيفة الزرقاء، وكان الليل أشد عتمة من ثوبها، هكذا تغني دورثي في الملهى الليلي. يتسلل جيفري إلى شقة دورثي بمساعدة ساندي ابنة محقق الشرطة.
لا ينجذب جيفري إلى أجواء الجريمة من طريق الإثارة الهيتشكوكية المعتمدة في أفلام الجريمة، بل من طريق المعرفة شبه العلمية الباردة التي يتزود بها مثلا بعد قراءة كتاب عن حياة النمل الأحمر، وهذا يضع الفيلم في منطقة نائية. يُقدِّر لينش كائنات التربة، ومنها النمل، وليست مصادفة أن يتجوّل النمل على الأذن المقطوعة، وفي سينما لينش هناك لقطات كثيرة شديدة القرب، وكأنها تبحث عن شيء دقيق، شيء يختبئ في تربة غنية.
يختبئ جيفري في خزانة ملابس دورثي. ضيق شقة دورثي من الداخل لا يتناسب مع حجم المبنى المهيب، من الخارج، النهر العميق لا يسمح لكائناته بحركة مريحة، والحوائط تهيمن بكابوسية على رؤية الكاميرا. يرى جيفري من خِصَاص خزانة الملابس مشهدا مرعبا، يغتصب فيه فرانك المريض بسادية متطرفة، دورثي. والأكثر رعبا أن دورثي تستسلم بمازوخية إلى فرانك.
صور لا كلمات
ابتعد ديفيد لينش في أفلامه اللاحقة عن التوغل في المشاهد الجنسية، طالما أن أرضه الغريبة الغامضة كما في تحفته "إنلاند إمباير" (2006)، تجسدت دون الحاجة إلى مشاهد جنسية يبتلعها بسهولة علم النفس، كما ابتلع فيلم "سالو" (1957) لبازوليني، وفيلم "شبق" (2013) للارس فون ترير.
محاولة الاقتراب بالكلمات من فيلم لينش، "مولهولاند درايف" (2001)، هي محاولة محفوفة بالاخطار، فلينش نفسه لا يحبّ الكلمات، ويفضِل عليها الصور والأصوات وموسيقى "البوب" و"الروك"، وهو يعتمد على سيناريوهات وحوارات تتوقف قيمتها فقط على رفعها عبر الأداء والصورة والصوت والتركيب الزماني والمكاني للفيلم إلى ذروة فنية في غاية التعقيد، بحيث تبدو العلاقات النهائية للدراما مثل علاقة الأسباب بالنتائج، غريبة، مختلة، غير متوازنة، تدفعنا دائما إلى منطق الأحلام والكوابيس.
سقطت جميع محاولاتي السابقة في الكتابة عن فيلم "مولهولاند درايف"، في الفراغ، مثلما سقطتْ آمال ستراغون وفلاديمير بلقاء لم يتحقق مع غودو عند شجرة ميتة في مسرحية صموئيل بيكيت "في انتظار غودو"، وها هي محاولة أخرى، وربما أخيرة، وبالكلمات أيضا، للقاء الفيلم. غرفة أعمال في هوليوود. أحد الأخوين كاستلياني يُخرج صورة فوتوغرافية بالأبيض والأسود، لكاميلا رودس، ويمررها على المنضدة في اتجاه المخرج آدم كيشر ومدير أعماله واثنين من فريق الإنتاج، بينما يقول الأخ الآخر: "هذه هي الفتاة"، وكأنّ العبارة تعويذة شريرة تسيطر على أجواء الفيلم. يسود التوتر، يعترض المخرج على ترشيح الممثلة. يكرر الأخوان كاستلياني "هذه هي الفتاة".
أحد الأخوين يطلب قهوة ومنديلا. وهنا نستطيع القول بأن لينش يصنع من لا شيء، تحت أعيننا، بالصمت والأداء، قيمة كبرى، فموضوع القهوة الثانوي والعابر، يضاهي فجأة عبارة "هذه هي الفتاة". يبصق كاستلياني ببطء القهوة على أكبر مساحة من المنديل الأبيض دون سقوط نقطة قهوة خارج المنديل. يزداد التوتر. يعترض أحد أعضاء فريق الإنتاج، بأن القهوة من أفضل الأنواع. يصرخ أحد الأخوين كاستلياني، بينما يقول الآخر "هذه هي الفتاة".
يطغى الحلم عند لينش على الحالم، بل قد يبتعد الحلم دون هوية تربطه بالحالم، أو يتلبَّس واقع شخص آخر
لا يقف الأسلوب على أرض صلبة، بل على رمال متحركة، فإذا ما أردنا الوصول إلى الخصائص المميزة لهذا الأسلوب، يجب علينا الكشف عنه دفعة واحدة، دون وصفة جاهزة لهذا الاندفاع، ودون تدرّج، وبنفس الخصائص المميزة للأسلوب التي لم يعرفها بعد، لكنه يحدسها، يخمنها، بضربة حظ، برمية زهر، فإمّا ينال كل شيء، أو يفقد كل شيء.
بروتوكولات بورخيس
يحقّق لينش في "إنلاند إمباير"، بروتوكولات خورخي لويس بورخيس الجمالية الأربعة، وهي اختلاط الواقع بالحلم، الفيلم داخل الفيلم (عند بورخيس الكتاب داخل الكتاب)، الازدواجية، السفر في الزمن، إلا أن هناك مفارقة مزعجة، ففيلم "إنلاند إمباير" يُصنَّف ضمن أفلام الجريمة، وأفلام الجريمة مسرفة في واقعيتها، أو على الأقل لا تسمح بتسكعٍ جمالي غير مسؤول أمام الحلم ومضاعفات الدراما وانعكاساتها، وشبه تطابقها في المرايا والزمن.
يشترك مع لينش في هذا البروتوكول الجمالي (الفيلم داخل الفيلم)، كل من جان لوك غودار وفدريكو فيلليني وكلود لولوش في بعض أعمالهم، إلا أن لينش يبقى الأكثر وحشية ومأسوية، وهذا يرجع إلى عدم التوازن بين الحلم والحالم، فقد يطغى الحلم عند لينش على الحالم، بل قد يبتعد الحلم دون هوية تربطه بالحالم، أو يتلبَّس واقع شخص آخر، هكذا نفقد المرجعية في "إنلاند إمباير"، لكنه فقدان يُروّض ترويضه في النهاية بكثرة المشاهدة.
تستقبل نيكي (لورا ديرن) بطلة الفيلم، جارة جديدة غامضة (غريس زابريسكي)، تتحدث بلكنة أوروبية شرقية ثقيلة، وهي جاءت لتقول مرحبا لنيكي، لكن حديثها الغريب يقلق نيكي. تعرف الجارة أن نيكي قُبلت لأداء دور البطولة في فيلم يُدعى "غد حزين في الأعالي"، وأن نيكي ستعرف، وتشير بيدها إلى الكنبة التي ستجلس عليها، في الغد، وتتلقى خبر القبول، وهذا ما سيحدث، وتحذّرها بحكاية مشؤومة عن ولد صغير ذهب ليلعب، لكنه عندما فتح الباب، ورأى العالَم، وُلِد في الحال الشر، ولاحق الولد.
لا تفهم نيكي، فتقول الجارة بتهكم مكتوم "قصة قديمة، وهناك تنويعات عليها، مثلا، فتاة صغيرة ذهبت لتلعب، فتاهتْ في حارة خلف السوق". تسأل الجارة فجأة نيكي عن جريمة قتل داخل دراما الفيلم ثم تُلمِّح إلى أن نيكي ستنسى هذا الحديث. أبطال لينش إلى حدّ ما بلا ذاكرة، أو أن فقدان ذاكرة أبطاله، يسمح له بخلط تواريخ الفيلم، فيبدو الزمن مبهما عصيا على مرجعيات الماضي والحاضر والمستقبل.