الاغتراب عن الواقع
العزلة الاجتماعية حالة يكون فيها الشخص في مستويات متدنية من العلاقات الاجتماعية والتفاعلات، أقلّ من المعتاد لدى غالبية الناس، أو ما يمكن تسميته بالحالة السويّة. وهنا لا يشمل القول حالات الانفصال الاجتماعي الذي يظهر بوصفه إحدى العلامات البارزة في بعض الأمراض النفسية أو الذهنية، مثل مرض الفصام، وهذا أمر لا يمكن نفي تأثير الواقع الخارجي فيه على الفرد الذي يعاني هذه الحالات.
يساهم الخلل في الإدراك الاجتماعي في العزلة، وتتسبب العزلة الاجتماعية بالشعور بالوحدة، وهذا وحده كفيل بتكريس العزلة لدى الشخص أمام ضغط الظروف الخارجية التي يقف عاجزا أمامها، أو غير مدرك لتطوراتها السريعة التي لا يستطيع مواكبتها.
ساحة تروكاديرو، مع برج إيفل في الخلفية وأشعة الليزر تضيء السماء، خلال حفل افتتاح أولمبياد باريس 2024
يعيش اليوم أكثر من نصف سكان العالم في المدن، والعدد الى ازدياد، وتصاحب ذلك زيادة في الكثافة السكانية، وضجيج وصخب وحركة مرور مرهقة وملوّثة، بحيث تشير الدراسات إلى أن خطر الإصابة بالأمراض النفسية، أو الاضطرابات الشخصية يكون أعلى في المدن منه في المناطق الريفية. إذ تساهم العزلة الاجتماعية والتمييز، فضلا عن الفقر، في الأحياء الهامشية، في الضغط النفسي. ومع تزايد التحضّر يتعرّض مزيد من الناس لعوامل الخطر المتعلقة بالبيئة الاجتماعية الحضرية، مثل الفقر، وتقلص المساحات بين المساكن، وانعدام الخصوصية، وضجيج المرور، وعوامل أخرى تعرّض للإجهاد، مما يؤثر سلبا على الصحة النفسية.
يقف الفنان الفرنسي أبراهام بوانشيفال على منصة عامود في إسكويبيان، غرب فرنسا في 14 يوليو 2015، حيث بقي لمدة أسبوع كجزء من عرض يسمى "لا فيجي" (نقطة المراقبة)
أضيفت اليوم إلى كل تلك العوامل، أسباب أخرى أدّت إلى اغتراب جديد، وعزلة إضافية؛ أشكال جديدة من العمل، بل يمكن القول إنها نسفت عدة أشكال من الأعمال التي كانت سائدة، هذا ما شهده العالم خلال جائحة كوفيد19، فتحوّلت شركات وخدمات عدة إلى الشكل الرقمي، والى غلق بعضها بشكل نهائي، عدا تغيير أمكنة العمل وشيوع العمل عن بعد وما يترك في النفس من آثار سلبية، ويؤذي العلاقة الاجتماعية الخاصة التي توفرها أمكنة العمل. ما يمكن الوقوف عنده أيضا، هو انعدام الأمن الجديد، نتيجة شعور الفرد بأنه مكشوف بالكامل، فاقد لخصوصيته، واقع تحت تأثير سلطة غامضة تتحكم في حياته من دون أن يكون لها أثر مادي ملموس، وهي سلطة الإنترنت ومنصاته وتطبيقاته التي جعلت الفرد كائنا تابعا، مثل ضحية تتماهى مع جلادها، بحسب متلازمة استوكهولم.
إن الأزمات التي مرت بها الرأسمالية في العقود الأخيرة، منذ الأزمة المالية العالمية وانفجار فقاعة العقارات في العام 2008، مرورا بأزمة كوفيد19، وبعدها الأزمة الحالية الموّارة بالحروب والتسليح، والتي أدّت إلى الإغلاق وتسريح العمال في عدد من الشركات، بالإضافة إلى الأزمات البيئية المتفاقمة، كلها ظواهر تزيد الضغط النفسي على الأفراد.
مصنع الاغتراب
قادنا العصر الحديث إلى عتبة عصر لم تنجلي صورته الكاملة بعد، اصطلح على تسميته "عالم ما بعد الحداثة"، إنما يمكننا القول، على الأقل، إنه عصر بلا ملامح إنسانية، أو روح إنسانية، عصر لا يصنع عالما نأنس له. فالتطور المتسارع للعلوم والثورة الرقمية يزيدان قدرة القوة البشرية على صنع عالم مخيف لنا. فهو، بقدر ما يحاصر الروح الإنسانية، يلقي بالإنسان أكثر من أي وقت مضى في "سجن عقله".
قدرات الإنسان التقنية باتت جبارة، وهي لم تعد تكتفي بالأرض مجالا لها، بل تعدّتها إلى الكون، وصارت الأرض، المسكن الطبيعي للإنسان، مهددة بالفناء بعدما وصلت مغامرات العقل البشري الحالي إلى هذا الحدّ من الجموح والهوس بالاكتشاف والسيطرة، صار الفرد حاليا يعيش مع القلق لحظة بلحظة، وفقد خصوصيته واستفحل شعوره بالضعف، وذوبان فرديته، بعدما كانت الفردية تكرّست بوصفها قيمة كبرى في العصر الحديث، وبعدما قلبت الثورة الصناعية كل الأنظمة والمفاهيم، لم يعد إنسان اليوم على شاكلة روبنسون كروزو، البطل الخارق، رمز الفردانية، ولم يعد قادرا على إحداث أثر، ولو بسيط، في مسار التغير الاجتماعي، بل أصبح كائنا ضئيلا تتحكم فيه خوارزميات فائقة الذكاء، بل خبيثة أحيانا.
لكن، ما الرسالة التي يريد بوانشيفال إيصالها؟
في هذا القارب غير النمطي الذي يبلغ طوله ستة أمتار، يريد بوانشيفال استكشاف حدود العزلة مع البقاء على اتصال بالعالم الخارجي، في تجربة تحاكي واقعنا، نحن الذين نعيش مع الآخرين، نراهم ونسمعهم ونعيش بينهم، مكشوفين عليهم، لكننا وحيدون. يقول: "سأسمع الصخب، لحظات الفرح، لحظات خيبة الأمل أيضا"، ويتابع: "كثير من الناس يعرضون حياتهم على الشبكات الاجتماعية، أتساءل عن الطريقة التي ننظم بها أنفسنا في حياة نعلم فيها أننا مراقبون في كل لحظة".
كأنما يريد القول للإنسان: لستَ بين أربعة جدران ومع ذلك فأنت وحدك، ولكن في وسط الجميع. هي الحقيقة الجارحة إذن، الفرد مكشوف أمام الجميع، مراقب، مقيّد بأدق تفاصيله، حتى الحميمة منها، مسلوب الفاعلية تجاه حياته والسيطرة على واقعه وتقرير مصيره، الإنسان حاليا في ورطة لا يملك وسيلة للتحرّر من سلطتها عليه، لا يملك القدرة على امتلاك زمام نفسه، ليصنع حاضره ومستقبله، صار الزمن بالنسبة إليه كائنا مخيفا، لا يستقر على شكل، تمتدّ له أذرع من دون أن يعرف العيش فوقه، أو خارجه، أو ضمنه، لقد فقد مفهوم الزمن الإشكالي، مكانته في النفس البشرية.