دفاعا عن التسلية

دفاعا عن التسلية

ربما كان المرء، في كل ما يبحث عنه ويسعى إليه خلال حياته كلها، إنما يبحث عن التسلية ويسعى إليها. وربما كان ذلك لأنه، من بين الكائنات كلها، أسرعها إلى الضجر وأكثرها شعورا بالوحشة. وقد لا نجافي الصواب إذا قلنا إن بحث الإنسان عن التسلية هو في أساس إبداعاته وأفكاره وتصرفاته. ومن الرغبة

في هذا البحث انبثقت نزعات الإنسان وأهواؤه وتطلعاته. وربما كانت الفنون على أنواعها، ومن بينها الآداب خصوصا، أوضح النتائج لذاك البحث. بل ربما هي أرقى تلك النتائج وأنضجها وأبقاها.

رغبة الأديب في إنتاج أعمال أدبية توفر التسلية له وللقارئ، من شأنها أحيانا أن تذهب به مذاهب بعيدة جدا، فتجعله يتطرق إلى أعمق الموضوعات أو القضايا، ويتناولها على نحو رشيق أو غير مباشر، وربما دون وعي أو تخطيط، ولكن دائما بأسلوب يجمع بين المتعة والمعرفة، يحمل الفكرة ويهدهدها، فيجعلها تتطاير كالفراشة ولا ترسب كالحصاة في قاع النهر.

سبيل التهكم الذي سلكه سرفانتس قاده من حيث يدري أو لا يدري إلى مجاهل النفس البشرية وإلى تصوير أعمق المواقف وأكثرها تعبيرا عن الصراعات

لو أخذنا على سبيل المثل الجزء الأول من كتاب "دون كيشوت" لمؤلفه الإسباني الشهير سرفانتس، لوجدنا فيه نموذجا باهرا للأعمال الأدبية الفذة، التي لا تكتفي بجذب القارئ وصقل ذهنه وتعميق معارفه، وإنما تقدر على إمتاعه وتسليته، بل تذهب إلى حد إسعاده وإضحاكه، بما تبعث في نفسه من حالات المرح والحبور.

يقال إن سرفانتس، عندما عزم على وضع كتابه "دون كيشوت"، كان يرمي إلى حل جزء من ضائقته المالية، بواسطة كتاب يلقى رواجا لدى جمهور القراء.

ولهذا أراد لكتابه أن يكون بسيطا مسليا، لكي يتسنى له أن يكون شعبيا رائجا. بسبب من ذلك، سلك سبيل التهكم والسخرية، وصولا إلى الفكاهة والتصوير الكاريكاتوري، ونجح نجاحا كبيرا في رسم بطله الذي جعله فارسا جوالا أوصله اطلاعه على كتب الفروسية إلى نوع من الجنون أو اختلاط العقل. فخرج من بيته يريد إحياء الفروسية التي ولى زمانها، أو التي ليس لها وجود إلا في الكتب.

ليس أطرف من تلك المغامرات التي يخوضها دون كيشوت وتابعه سانشو. إنها مغامرات تجعل القارئ مأخوذا بطرافتها وبسذاجة بطلها الذي يحارب أعداء من نتاج أوهامه وتصوراته. يرى المردة والسحرة في طواحين الهواء، فيهجم عليها لينكفئ بعد ذلك محطما مهزوما. هكذا في كل مرة، تقوده المغامرة إلى الهزيمة، دون أن تزعزع أوهامه أو تثني عزيمته، وإن كانت تثير المخاوف لدى سانشو، الذي يلازم سيده طمعا بالمكافآت التي وعده بها.

ولكن سبيل التهكم الذي سلكه سرفانتس قاده من حيث يدري أو لا يدري إلى مجاهل النفس البشرية، وإلى تصوير أعمق المواقف وأكثرها تعبيرا عن الصراعات والتناقضات في داخل هذه النفس: النبل، الطمع، الشرف، التضحية، الحب، الغدر، الوفاء، السذاجة، الذكاء، الجنون...الخ. هذه المواقف وغيرها تحظى من سرفانتس بمعالجات شديدة الرهافة والعمق، وذلك في سياق من  السرد الشائق الذي يقدم لنا مغامرات دون كيشوت الطريفة.

دون كيشوت واحد من أمثلة كثيرة يمكن إيرادها في مجال الكلام على الأدب وما يرمي إليه من توفير للتسلية. وقد يكون من المناسب أن نذكر هنا ببعض الفلاسفة، الذين قدموا أعمالا أدبية أتاحت لكل منهم أن يضع مادته الفكرية في سياق من التشويق، الذي يجعل الفائدة مقترنة بالتسلية. من هؤلاء الفلاسفة على سبيل المثل جان بول سارتر صاحب الكتاب الشهير "الوجود والعدم". هذا الكتاب، على شهرته، لا يكاد يقرأه إلا المختصون في حقل الفلسفة. أما الروايات والمسرحيات التي كتبها سارتر فتلقى إقبالا عليها من القراء، الذين يجدون فيها تجسيدا أدبيا لأفكاره وآرائه الفلسفية من جهة، ويجدون فيها قدرا من التسلية والمتعة من جهة ثانية. مثل هذا الكلام ينطبق على الشاعر الألماني غوته، وعلى الفيلسوف الألماني نيتشه، وعلى غيرهما من الذين وجدوا في الأدب أفضل جاذب إلى رؤاهم ونظرياتهم الفلسفية.

وفي اللغة العربية، يحظى "كليلة ودمنة"، الكتاب الذي نقله (أو ترجمه) ابن المقفع، بأهمية كبيرة. هذا الكتاب له أصول هندية وفارسية. ولكن ابن المقفع، في صياغته له في العربية، بدا مؤلفا أكثر منه ناقلا أو مترجما. وما الأهمية والشهرة اللتان حظي بهما هذا الكتاب إلا نتيجة لعوامل عدة، منها لغة ابن المقفع الصقيلة الفريدة، ومنها أيضا جاذبية الكتاب في كونه مسليا بسلاسته وطرافته اللتين لم تنقصا من عمقه وبعد مراميه. فقارئ هذا الكتاب، إذ يجد فيه قصصا وحوارات على ألسنة الحيوانات، من شأنه أن يستأنس ويستمتع بتزجية الوقت، وإن لم يلق بالا للهدف الأساسي الذي وضع الكتاب من أجله، وهو هدف تعليمي توجيهي ذو طابع سياسي. فالغاية منه أن يعلم الحكام كيف يحكمون والمحكومين كيف يطيعون. هكذا تتحصل الفائدة للقارئ دون عناء، بل من خلال التسلية والاستمتاع.

لا يكتفي "ألف ليلة وليلة" بتوفير التسلية على نحو شائق وغرائبي، وإنما يجعل من التسلية هدفا أولا وأخيرا للأدب

"ألف ليلة وليلة" كتاب يحظى، هو الآخر، بشهرة عالمية. وله تأثير في مختلف الآداب. هذا الكتاب مجهول المؤلف (أو المؤلفين)، وتختلف الآراء والاجتهادات حول أصوله ومصادره. ولغته العربية لا تتمتع بما تتميز به لغة "كليلة ودمنة" من رشاقة ومتانة وسلاسة. وإنما قد يجد القارئ فيه بعض الركاكة، وقد يجد أحيانا مزجا بين الفصحى والعامية. ولكنه مع ذلك يوفر قدرا كبيرا من التسلية،

بل هو لا يكتفي بتوفير التسلية على نحو شائق وغرائبي، وإنما يجعل من التسلية هدفا أولا وأخيرا للأدب، الذي يقوم على السرد والاستطراد فيه. هذا الكتاب هو قمة في فن البحث عن التسلية وتحقيقها. وكم كان له، بسبب ذلك، من تأثير في فن السرد. ليس في اللغة العربية وحدها، وإنما في مختلف اللغات والآداب.

ولنا في كتاب أبي حيان التوحيدي، "الإمتاع والمؤانسة"، واحد من أفضل الأمثلة على جاذبية الأدب، وقدرته على توفير التسلية، للأديب وللمتلقي على السواء. فالتوحيدي لم يرم أولا إلى تأليف كتابه هذا. وإنما لبى رغبة لدى أحد الوزراء، وكان مولعا بالثقافة، في أن يسمر مستمتعا بأحاديث في شتى المواضيع الثقافية. فاستدعى التوحيدي لكي يسمر معه متحدثا في أي موضوع يطرحه عليه. وكان أن امتدت هذه الأحاديث على مدى أربعين ليلة. وفي كل ليلة كان الحديث يمتد إلى آخر الليل، أو بالأحرى إلى أن ينعس الوزير. عند ذلك يقول لأبي حيان: أعطنا ملحة الوداع. فينشد له التوحيدي قبل انصرافه بضعة أبيات من الشعر.

لم يترك الوزير موضوعا من المواضيع الثقافية التي كان يهتم بها إلا وطلب من أبي حيان أن يحدثه فيه أو عنه: في الشعر والنثر والنقد والفلسفة والعلم والنحو والطبيعة والمنطق... وغير ذلك. ولم يكن التوحيدي يدون ما يقوله. حتى إذا انقضت المدة التي أمضاها في مسامرة الوزير، نزل عند رغبة بعض أصدقائه في أن يتذكر ما قاله ويجعله في كتاب، فوضع "الإمتاع والمؤانسة" مقسما على الليالي الأربعين، لكل ليلة جزء من الكتاب ينطوي على موضوع من المواضيع التي اقترحها الوزير. فكان الكتاب نموذجا في التنوع الذي يوفر المتعة والأنس والتسلية والفائدة. وقد صاغه التوحيدي بلغة تجعلنا نعده واحدا من أجمل الكتب في التراث الأدبي العربي.

font change