منذ سنوات وأنا أتساءل عن التجارب الروائية الجديدة في البحرين، تلك التي لا تبدو حاضرة على غرار التجارب الروائية العربية الأخرى في المشهد الثقافي العربي من خلال النشر أو الجوائز، باستثناء ما قرأنا من كتابات لبعض الساردين. حتى وصلتني، أخيرا، رواية للكاتبة البحرينية ليلى المطوّع بعنوان "المنسيّون بين ماءين". فما أن قرأتها حتى وجدت تجربة مهمّة تضاف إلى السرد العربي المهتم باكتشاف جماليات البيئة المحلّية، إذ بدت تجربة المطوّع امتدادا لسرديات الكتّاب البحرينيين السابقين أمين صالح وعبد القادر عقيل وفريد رمضان وفوزية رشيد، الذين احتفوا بالمكان البحريني وسردياته الخاصة، إلى جانب الفرنسي جيلبير سينويه في روايته "دِلمون: مملكة ببحرين".
في هذه الرواية الصادرة حديثا عن دار "رشم" في السعودية، ترسم المطوّع لوحات متعددة للبحر، يحتشد فيها الكثير من الأساطير والحكايات والأفكار، بألوان مائية قريبة من الأمواج المتلاطمة باليابسة والجزر والناس الذين لا يتراجعون عن محاولتهم تطويع هذا البحر لمصالحهم اليومية، غير عابئين بهيئته الجديدة التي ستتشكل على إثر هذا التطويع.
تقترب الرواية كثيرا من السرديات الشعبية بمنحاها الأسطوري والحكائي الخرافي، متنقلة بين أزمنة كثيرة غير محدّدة، فسليمة التي تفتتح الرواية بقصتها ترى زوجها صفوان وهو يقدّم ابنتهما، مع اثنتي عشرة فتاة، أضحية أو قربانا لنبع ماء آخذ في الزوال، وسط رقصات وأناشيد الكاهنات اللواتي يمارسن طقوسهن من أجل استعادة الماء وتدفقه من النبع ليروي عطش أرض جافة لا خضرة فيها. وهناك طقوس النساء اللواتي يبحثن عن أزواجهن الغائبين، فيذهبن إلى البحر عاريات، بغياب الرجال، يركضن على الساحل، ويصرخن بأصوات مرعبة "عسى البحر يخشاهن"، ينغمسن في البحر ويحرصن على ملامسة مائه لأجزاء محدّدة من أجسادهن، كما يعصرن أثداءهن ليسيل اللبن على موجه "لعلّه يشربه، ويكون ابنا بارّا بهم، ويعيد لهنّ الغائبين".
ترسم المطوّع لوحات متعددة للبحر، يحتشد فيها الكثير من الأساطير والحكايات والأفكار
وإن بدا الزمن سائلا كالماء في الرواية، يتنقل بين حاضر وماض والعكس، نجد الأسماء أيضا تتعدّد في الرواية باعتبارها محورا للسرد، فأهمّية بعضها تأتي حين يكون للاسم دلالته الاجتماعية أو الثقافية، مثل يعقوب وإسحاق، أمّا ما عدا ذلك فكلّ الأسماء سواء، فجميعها تلتقي في حكايات المكان بغرائبيته وسحره وواقعيته أيضا. فشخصية رئيسية مثل ناديا تقول "رأسي مثقل بذكريات، في أحيان أشعر أنّها ليست لي، بل لشخص آخر واقتحمت ذاكرتي".
هذه الذاكرة، من خلال أسماء متعدّدة، ناديا ونجوى وناديا- ثامارا وإيا ناصر وسليمة ودرويش، ستكشف لنا عن قصص أخرى، بعضها له علاقة بالتاريخ كالشاعر طَرفة بن العبد، أحد أبرز أعلام المكان البحريني. فأثناء مشهد مصرعه على يد عنترة، الذي تنقله الكاتبة من مرويات وحكايات، مضيفة إليها تخيلها الخاص، تسعى سليمة للتبرك به لكي تلد جنينا لا يموت، فتنهرها أخته الخرنق وتقسم أن جنينها لن يرى النور.
هناك قصص أخرى تعود إلى الأساطير التي ارتبطت بأرض دِلمون، وهو اسم البحرين القديم، سنقرأها وقد صارت ضمن أحداث معيشة تبدو واقعية على الرغم من هالة أفعالها.
الرواية، وهي تمتلئ بهذه الأساطير وقصص المكان، لا تنتهي نهاية اعتيادية، إذ يمكن أن نلحظ نهايات كثيرة وزّعت على الصفحات الأخيرة، فهناك قول نجوى لناديا بعد أن تدرك موت النخلة "إنّ ما ترينه ليس جزرا. إنّه البحر حين يلبس جلد من ابتلعهم من أهل الماء. نصفهم تراب يلفظه. إنّك حين تعبرين. تعبرين على جثتهم". وهو يؤكّد قولا سابقا لها: "لن تعرفي حدود الأرض وحدود البحر هنا. ستُخدعين. ما تظنّين أنه يابسة هو بحر. وداخل تلك البيوت الإسمنتية ستجدين أهل البحر. من ركب أجدادهم الماء. يغنّون الأغاني نفسها في المساء. ويصفّقون. ويقفزون على جثّة الشريف الذي قُتل. مات البحر وهؤلاء يقفزون يمينا ويسارا على جثّته. لتعمر الأرض بذرّيتهم".
هناك ما يشبه القلق أو الفجيعة من الجزر الصناعية ومواصلة ردم البحر في اتجاه موته
هناك ما يشبه القلق أو الفجيعة من الجزر الصناعية ومواصلة ردم البحر في اتجاه موته. وستجد ناديا- ثامارا أن الماءين، ماء الينابيع وماء البحر، يلتقيان و"يبتلعان كلّ شيء". قبل أن تلحظ حركة موج البحر وترى انعكاسها على مائه وقد صارت نخلة.
ما يمكن قوله في النهاية إن هناك حيلا سردية صاغتها الكاتبة لتبرّر لنا طريقتها في السرد، وتداخل مصادره بما يشبه الهذيان أحيانا بين الشخوص وذاكراتهم. وأظنها نجحت في ذلك، إذ أن كلّ شيء ممكن أمام مهارة كاتبة تعرف كيف تكتب.