جينتي بوستوما المرشحة لـ "بوكر" لـ "المجلة": قطعت شوطا طويلا للتحرر من سطوة الآخرين

Getty
Getty
الكاتبة الهولندية جينتي بوستوما في حفل توزيع جائزة بوكر الدولية 2024

جينتي بوستوما المرشحة لـ "بوكر" لـ "المجلة": قطعت شوطا طويلا للتحرر من سطوة الآخرين

الكاتبة الهولندية جينتي بوستوما المولودة عام 1974 اشتهرت بأعمالها الأدبية التي تحظى بإشادة النقاد وترشحت لجوائز أدبية عديدة كما فازت بجائزة "آل سنيدرس" لأفضل قصة قصيرة جدا عام 2012. دخلت روايتها الأحدث "ما أفضّل عدم التفكير فيه" ضمن القائمة القصيرة لجائزة "بوكر" البريطانية لعام 2024. صدرت روايتها الأولى "أشخاص بلا جاذبية" عام 2016. هنا حوار معها.

  • كيف تقدّمين نفسك للقارئ العربي؟

أنا كاتبة هولندية أعيش في أمستردام مع زوجي وابني. كنت صحافية مستقلة حتى بلغت الأربعين تقريبا. في عام 2016، نشرت روايتي الأولى "أشخاص بلا جاذبية"، والتي تدور أحداثها حول ابنة تعيش في ظل والدتها. إنها صورة لعائلة معيبة - أناس عاديون في عالم سخيف، أو العكس. قمت مع زوجي، المصور وفنان الذكاء الاصطناعي، باس أوترويجك، بإنشاء كتاب الصور الصغير "حاول أن تفكر جيدا بي" عام 2016، حول أب أختار الموت الرحيم. "ما لا أفضل أن أفكر فيه" المنشورة عام 2020 هي روايتي الثانية. نشرت الترجمة الإنجليزية لسارة تيمر هارفي في عام 2023. وستقوم أيضا بترجمة روايتي الأولى "أشخاص بلا جاذبية" وستصدر العام المقبل. في عام 2023 نشرت "ساحرة! ساحرة! ساحرة!" وهي رواية نسوية فكاهية لثلاث أساطير هولندية عن السحرة.

الحزن يمكن أن يكون مثل الألم المزعج المستمر مع طعنات حادة مفاجئة أو لحظات ساكنة

  • وصلت روايتك "ما أفضّل عدم التفكير فيه" إلى القائمة القصيرة لجائزة "بوكر" لهذا العام، كيف كان شعورك، خصوصا أن لوكاس رينيفيلد هو الكاتب الهولندي الوحيد الذي حصل عليها عام 2020؟

معرفة أن روايتي في القائمة الطويلة كانت أشبه بالحلم. وصلتني رسالة بالبريد الإلكتروني في منتصف الليل من ناشري الأسترالي ولم أنم بعد ذلك. وبعد إعلان إعلان القائمة القصيرة، شعرت بسعادة غامرة. ما زلت لا أستطيع أن أتخيل الفوز بالجائزة هذا العام. أتخيل الذهاب إلى لندن والاستمتاع بوقتي في حفل توزيع الجوائز، لكن لا يمكنني أن أذهب بأفكاري إلى أبعد من ذلك. كانت الترجمة دائما أمنية كبيرة بالنسبة إلي كونها تفتح العالم. وبالطريقة نفسها، آمل أن ينتشر كتابي أكثر ليصل إلى القراء خارج هولندا. أتذكر جيدا عندما فاز لوكاس راينيفيلد بجائزة "بوكر"، كنت سعيدة جدا. فلم يحقق أي كاتب هولندي هذا الإنجاز من قبل. وكان لحصوله على هذه الجائزة تأثير كبير على استقبال الأدب الهولندي في الخارج.

  • الرواية مكتوبة بأسلوب يشبه جمع قطع الفسيفساء. كيف ساهم هذا الأسلوب السردي في فهم حياة شخصياتها؟

حاولت الدخول إلى رأس شخص فقد للتو أحد أفراد أسرته. يحدث ذلك عندما تنشأ الأفكار بشكل عشوائي وتعود الذكريات فجأة. في الرواية لا يوجد تسلسل زمني. الحزن يمكن أن يكون مثل الألم المزعج المستمر مع طعنات حادة مفاجئة أو لحظات ساكنة. يرتفع وينخفض اعتمادا على مكان وجودك وما تفعله والأفكار التي يثيرها هذا الأمر. أتمنى أن يكون اختياري لهذا الأسلوب السردي، قد ساهم في إعطاء انطباع جيد عن الحياة العاطفية للشخصية الرئيسية، وبالتالي عن علاقتها بأخيها وكيف أثرت وفاته عليها.

  • تناقش الرواية مفهوم المسافة وعدم القدرة على التغلب عليها بين التوائم والعالم من حولهم؟

تدور كتاباتي غالبا حول المساحة التي يشغلها الشخص في حياة الآخرين ومحاولة إيجاد صوته الخاص. أكتب كثيرا عن العلاقات التكافلية. ماذا يحدث عندما تنتهي هذه العلاقة، ماذا يتبقى منك بعد ذلك؟ عندما ينتحر أحد أفراد أسرتك، مفيد أن ندرك أن هناك حدودا لما يمكنك فعله لشخص آخر، تماما كما توجد حدود بين الأشخاص، حيث تتوقف أنت ويبدأ الشخص الآخر. هذا ما تشعر به البطلة بعمق عندما تدرك صدمة الفقد. وفي الوقت نفسه، يعد هذا إدراكا مؤلما لأنه يواجهها بوحدتها الوجودية. الجميع يواجه ذلك في مرحلة ما. في النهاية، أعتقد أن الرواية تدور حول الوحدة أكثر من فكرة الانتحار. يتعلق الأمر بالعجز عن التواصل.

  • استخدمت قصص انتحار شهيرة في النص، من خلال معلومات يتبادلها التوأم حول سيلفيا بلاث وفيرجينيا وولف وأحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001. حدثينا أكثر عن ذلك.

يطرح الأخ والأخت الحقائق باستمرار ليتفوق كل منهما على الآخر، وليس فقط في ما يتعلق بالانتحار. تواسيهم معرفة الحقائق. من يعرف أكثر هو المسؤول. لذلك يبحثان في "غوغل" بلا كلل، لكنهما لا يعرفان نفسيهما بشكل كامل. بالنسبة إلى الكتاب، بحثت أيضا على نطاق واسع في "غوغل" عن حياة جوزيف منجيل، ونرجسية دونالد ترمب، وولاء روث مادوف، والمتنافسين في برنامج "الناجي"، ومستوى ذكاء الخنازير. وهي موضوعات أثارت اهتمامي كثيرا وشعرت أنها تناسب الرواية تماما، كونها جميعا تتعلق بشكل أو بآخر برغبتنا في البقاء على قيد الحياة. وأحيانا يكون العكس تماما: الرغبة في الموت.

الأشخاص الذين لا يظهرون أنفسهم، والذين يرتدون أقنعة أو يقيمون جدرانا حول أنفسهم، أجدهم مملين

  • ما اللحظات المفصلية في الرواية ولماذا؟

أعتقد أن ذلك يعتمد على القارئ. بالنسبة إليّ، اللحظات الأهم هي عندما تدرك البطلة دورها في القطيعة مع أخيها. هذه هي اللحظات التي يتغير فيها منظورها، وتتجلى في عينيها الأشياء التي لم ترها من قبل - النقاط العمياء التي تصبح فجأة أوضح، والأشياء التي تفضل عدم التفكير فيها. ولكن أيضا لحظات الوحدة الكبيرة أو الذكريات المحبة والمرحة لأخيها. "فكرت في كل الحب الذي نتمتع به بداخلنا وكيف أن جزءا صغيرا منه فقط يصل إلى الأشخاص الذين نهتم بهم". هذه العبارة في الرواية مهمة بالنسبة إليّ، فقد اختبرت الشعور بالعجز كثيرا.

  • الموت والصحة العقلية والأسرة هي المواضيع التي ناقشتها دائما في أعمالك. حدثينا أكثر عن هذا.

أنا مهتمة جدا بكيفية تواصل الناس. ربما ورثت ذلك عن والدي الذي كان معالجا نفسيا. الأشخاص الذين لا يظهرون أنفسهم، والذين يرتدون أقنعة أو يقيمون جدرانا حول أنفسهم، أجدهم مملين، ولا أرتاح في التعامل معهم، وأحيانا أشعر بالغضب منهم. لكن لكل شخص أسبابه الخاصة للاختباء، فلا يمكنك إجبار الناس على الخروج من قوقعتهم. استغرقت وقتا طويلا لإدراك هذه الحقيقة.

العلاقات الأسرية تهمني على نحو خاص. إلى حد كبير، يتم تعريفك من خلالها. شخصيا كان لدي روابط عائلية وثيقة للغاية. قطعت شوطا طويلا للتحرّر من سطوة الآخرين. ساعدتني الكتابة على التواصل بشكل أفضل مع ذاتي. وفي الوقت نفسه، كنت خائفة من ذلك أيضا، خائفة من إظهار نفسي للعالم الخارجي، خائفة من قوتي وقوة كلماتي أيضا. اضطررت إلى البحث بعمق للعثور على تلك الكلمات. لهذا السبب لم أقم بأول ظهور لي إلا في وقت متأخر من حياتي. كل شيء في حياتي، كنت متأخرة فيه. ميزة ذلك هي أنني حين أبلغ عمر 75 عاما، إذا سمحت صحتي بذلك، فمن المحتمل ألا أتوقف عن الكتابة، وأن أظل منخرطة بشكل كامل في الحياة.

  • ما الذي يلهمك ؟

الكتب والمسرح والأفلام، لكني أعتقد أن الشعور بالارتباط بالآخرين هو أكثر ما يلهمني. ومع ذلك، أنا في الواقع أخاف من الناس. لا أحب إجراء محادثات مع أشخاص لا أعرفهم، لأن الأمر غالبا ما يصبح محرجا. لكنني أحببت إجراء المقابلات عندما كنت صحافية لأنه كان لدي دور واضح وسبب وجيه لطرح جميع أنواع الأسئلة. خلال تلك المقابلات - خاصة مع الكتاب والممثلين والفنانين - كنت شجاعة وهذا جعلني قادرة على إجراء مقابلات حقيقية حققت لي أكثر من مجرد قصة جيدة. حينها  لاحظت مدى فضولي الجائع، أشعر بالسعادة عندما أنجح في التواصل مع شخص ما، خاصة إذا كان هذا الشخص قادرا على تصغير ما يحدث لرؤية مدى عبثية حياتنا وكم نحن جميعا سخيفون، دون الاستهانة بآلام الآخرين. يمكن أن تكون الفكاهة شكلا من أشكال الحكمة، فهي تجعل الحياة أسهل. مثل هذه المقابلات يمكن أن تكون محفزة للغاية.

  • من هم الكتّاب الأكثر تأثيرا فيك كقارئة؟

في السنوات القليلة الماضية، كنت أقرأ بشكل رئيسي لكاتبات، ليس لأنني أعتقد أنهن يكتبن أفضل من الرجال، ولكن لأنني أجد وجهة نظرهن واختيارهن للموضوعات أكثر إثارة للاهتمام في الوقت الحالي. عملهن أكثر إثارة. أقرأ كل يوم، عادة في المساء. الآن، أعيد قراءة رواية "أمي تضحك" لشانتال أكرمان. أنا معجبة جدا بأعمالها. كتبت بشكل متعمق عن العلاقات الأسرية من خلال مزج الفكاهة والبؤس. أرى أن أسلوبها السردي استثنائي.

كذلك أستمتع كثيرا بالكتب التي تحتوي على شيء غريب، والكتاب الذين لديهم لغة خاصة بهم. على سبيل المثال، كتاب "البركة" للكاتبة كلير لويز بينيت، والذي قرأته أخيرا. وأعمال ديبورا ليفي تتمتع بهذه الجودة أيضا. وريتشل كوسك وويتولد جومبروفيتش وكلاريس ليسبكتور، والكاتبة الهولندية مارتجي وورتل. هؤلاء هم الكتاب الذين يجرؤون على المخاطرة. عندما أقرأ أعمالهم أفكر دائما: لم أكن أعلم أن هذا ممكن، على ما يبدو، هذا مسموح به أيضا. هذه الكتابة تحررنا، وتسمح لنا بارتياد آفاق جديدة. وهذا يجعلني أرغب في الكتابة. للحظة يذهب الخوف. قبل أن أبدأ في النشر بنفسي، كانت ليديا ديفيس واحدة من الكاتبات اللاتي كان لهن هذا التأثير عليّ. كانت أعمالها القصصية بمثابة كتاب مقدس بالنسبة إليّ. تتألف بعض القصص من جملة واحدة فقط أو فكرة أو ملاحظة تبدو تافهة ثم تفصّلها الكاتبة. وبدا لي أن ذلك مسموح به في الأدب. لذلك ليس من الغريب أن تكون منشوراتي الأولى عبارة عن  قصص قصيرة جدا.

لا شيء معقدا في القتل الجماعي للفلسطينيين الذي يجري الآن. ما يجب فعله هو وقف إطلاق النار

  • تبدين اهتماما كبيرا بالقضية الفلسطينية، خاصة منذ بداية الحرب على غزة. هلا شاركتنا أفكارك في هذا الشأن؟

مثل كثير من الناس في جميع أنحاء العالم، أشعر بالصدمة إزاء الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل علنا في غزة في الوقت الحالي. صدمتني أيضا الطريقة التي تتهرب بها الحكومات الغربية من مسؤوليتها وكيف تقلل بعض وسائل الإعلام الغربية الكبرى من الفظائع التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي باستخدام عبارات خفيفة عندما يتعلق الأمر بالرجال والنساء والأطفال الفلسطينيين الذين قتلوا أو أخذوا رهائن أو عذبوا. الاستخدام الحقيقي للكلمات مهم جدا. وفي الوقت نفسه أشعر بالعائلات الإسرائيلية التي فقدت أحبائها أو تنتظر بفارغ الصبر عودتهم إلى ديارهم بعد الهجوم الوحشي الذي شنته "حماس". وأشعر بالتعاطف مع الشعب اليهودي في كل مكان، الذي يعاني من تصاعد عالمي مخيف وخطير في معاداة السامية. كما أتعاطف مع المسلمين الذين يعانون من الإسلاموفوبيا المتزايدة باستمرار.

إنني أدرك التاريخ الطويل وكل المشاعر والحساسيات والمصالح المرتبطة بتلك القطعة الصغيرة من الأرض في الشرق الأوسط. إنه موضوع معقد. يمسّ الكثير من الناس أكثر من أولئك الذين يعيشون هناك فقط. ولكن لا شيء معقدا في القتل الجماعي للفلسطينيين الذي يجري الآن. ما يجب فعله هو وقف إطلاق النار.

في كل صراع، من المهم أن نبقى على صلة بإنسانيتنا، سواء كانت جيدة أو سيئة، بما في ذلك تلك الجوانب من أنفسنا التي نفضل عدم مواجهتها . وهذا يسمح لنا أيضا بأن ننظر إلى الآخرين بهذه الطريقة، كبشر، وليس كأشرار. بالطبع، من السهل بالنسبة إليّ أن أدلي برأيي، فأنا لا أعيش في فلسطين أو إسرائيل. عندما يتعين عليك التعامل كثيرا مع المعاناة، فمن الصعب أن لا تقسو.

شخصيا أجد صعوبة في رؤية إنسانية الحكومة الهولندية عندما تعرقل وقف إطلاق النار وتستمر في تصدير قطع غيار الطائرات المقاتلة من طراز F-35إلى إسرائيل، كل ذلك لأن رئيس وزرائنا مارك روته صمم على أن يصبح الأمين العام لحلف شمال الأطلسي وكسب تأييد الأميركيين. الحديث عن رؤية الحياة على أنها عبثية: هو شكل من أشكال السخافة التي لا أستطيع أن أضحك عليها. العالم يراقب ولا يفعل شيئا حيال وضع الفلسطينيين. كان الأمر كذلك طوال السنوات الماضية. حتى يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، لم أفعل شيئا أيضا. كان انتباهي في مكان آخر. الآن أتابع ما يحدث عن كثب وأشعر بالعجز.

font change

مقالات ذات صلة